قصة الخوارج











قصة الخوارج



بعد ان کتب الطرفان وثيقة الصلح، ووقَّع عليها کل من الإمام ومعاوية، دار بها أبوموسي الأشعري علي عسکر الإمام، فلما مرّ برايات بني راسب قالوا: لا نرضي، لا حکم إلاّ لله، فلما أخبر الإمام قال له: هل هي غير راية أو رايتين ونبذ من الناس؟ قال: لا. صحيح أن أهل الکوفة کانوا قد تعبوا من الحرب، إلاّ أن أوارها کان لايزال يتقد في أفئدة الکثيرين. فلما بادر المتطرفون بإعلان التمرد، انتشرت دعوتهم کالنار في الهشيم. فما راع الإمام إلاّ نداء الناس من کل جانب: لا حُکم إلاّ لله، لا الحکم إلاّ لله، لا الحکم إلاّ لله، يا علي لا حُکم لک، لا نرضي بأن يحکم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضي حکمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا في حکمنا عليهم. وکلما نصحهم الإمام وذکَّرهم بان العهد لاينقض وقد جعلوا الله عليه وکيلاً، أبوا إلا الحرب وقالوا للإمام بالحرف الواحد: تب إلي الله کما تبنا، وإلاّ برئنا منک. وعزز موقف الخوارج نتائج الحکمين حيث غرّر عمرو بن العاص بصاحبه أبي موسي الأشعري،فاتفق معه علي أن يخلعا کلاًّ من الإمام ومعاوية، وقدم عمرو صاحبه فلما فعل أبوموسي قام عمرو وقال: إن هذا خلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه کما خلعه وأثبت صاحبي معاوية. وهکذا دعمت عاقبة التحکيم جانب المتطرفين فاجتمعوا في منطقة «الحروراء» وبعث إليهم الإمام ابن عباس فناقشهم بالقرآن فلم يستجيبوا له، فذهب إليهم بنفسه وسأل عن الرجل المقدَّم فيهم فقيل: يزيد بن قيس الأرحبي، فذهب إلي خبائه وصلَّي رکعتين، ثم قام وقال: هذا مقام من فلج فيه فلج يوم القيامة. ثم التفت إلي الناس وقال: أنشدکم الله، أعلمتم أحداً کان أکره للحکومة مني؟. قالوا: اللهم لا، قال: أتعلمون بأنکم أکرهتموني حتي قبلتها؟.قالوا: اللهم نعم. قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟. قالوا: إنا أتينا ذنباً عظيماً فتبنا إلي الله، فتب إلي الله منه واستغفره نَعُدْ إليک. فقال الإمام (ع): إني أستغفر الله من کل ذنب، فاستجابوا إليه ورجعوا معه إلي الکوفة، وکانوا أکثر من ستة آلاف مقاتل. ولکن يبدو أنهم- عند عودتهم إلي الکوفة- التقوا بالمدافعين عن التحکيم، وهم أکثرية الجند ممن اتَّبع الأشعث، فأثارهم هذا الأخير الذي کانت مواقفه الخيانية مشهودة في کل مکان، وهو الذي أکره الإمام علي التحکيم أول مرة- فخرج القوم إلي منطقة تسمي بالنهروان فمر بهم مسلم ونصراني، فقتلوا المسلم بعد أن عرفوا رأيه حول الإمام، وترکوا الثاني قائلين لابد أن نحفظ ذمة نبيِّنا، وکأنَّ الإسلام لم يحقن دماء المسلمين!

والواقع: أن تنامي التطرف وانحسار الوعي، وتهافت أسس التفکير عند القوم، کان السبب في جرائمهم، کما کان سبب انقراضهم.. لقد کان عبدالله بن خباب من أصحاب رسول الله (ص) وکذلک والده خباب بن الأرت کان من أعظم أصحاب الرسول، فمرَّ بهم عبدالله وفي عنقه قرآن، ومعه زوجته الحامل، وکانت في شهرها الأخير،فأخذوه وقالوا له: إن هذا الذي في عنقک يأمرنا بقتلک، فقال لهم أحيوا ما أحياه القرآن، وأميتوا ما أماته.

وفيما هم يحاورونه کانت تسقط تمرة من نخلة فيتناولها أحدهم، فيصيحون به حتي يلفظها. ويمر بهم خنزير فيقتله أحدهم، فينهرونه ويقولون هذا فساد في الأرض. وعادوا إلي عبدالله بن خباب وقالوا له: ما تقول في أبي بکر وعمر وعلي قبل التحکيم، وعثمان في الست السنين الأخيرة من خلافته؟. فأثني عليهم خيراً. فقالوا: ما تقول في علي بعد التحکيم والحکومة؟. فقال: إن عليّاً أعلم بالله، وأشد توقياً علي دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنک لا تتبع الهدي، بل تتبع الهوي، والرجال علي أسمائهم، ثم جروه إلي شاطئ النهر وذبحوه وجاؤوا بزوجته فبقروا بطنها، وذبحوها مع ولدها إلي جانبه!.[1] .

وهکذا عاث الخوارج فساداً في الأرض وکادت روح القتال المتمردة علي القيم تنتشر فيهم وهم أبناء الجزيرة العربية التي لاتزال أرضها تغلي بالدم والثار والعصبيات الدفينة. ولولا أن الإمام (ع) بادر وسار إليهم لَکان يُخشي أن تشمل الفتنة کل أطراف بلاده.. فقد قصدهم للتوِّ، ولمَّا بلغ مکاناً قريباً أرسل إليهم من يأمرهم بدفع قتلة الصحابي الجليل عبدالله بن خباب وزوجته وسائر من قتل من المسلمين علي أيديهم. فقالوا له: کلّنا قتلة عبدالله. وأضافوا: ولو قدرنا علي علي بن أبي طالب ومن معه لقتلناهم. فمشي إليهم الإمام بنفسه، وقال: «أيها العصابة، إنِّي نذير لکم أن تصبحوا لعنة هذه الأمة غداً وأنتم صرعي في مکانکم هذا بغير برهان ولا سنَّة». وحاجّهم- مرة أخري- ونصحهم بأن ينظمّوا إليه لقتال معاوية، وهو هدفهم المعلن، فقالوا: کلا لابد أن تعترف أولاً بالکفر، ثم تتوب إلي الله کما تبنا حتي نطيع لک، وإلاّ فنحن منابذوک علي سواء. فقال لهم: «ويحکم، بم استحللتم قتالنا والخروج عن جماعتنا». فلم يجيبوه وتنادوا من کل جانب: الرواحَ إلي الجنة!. وشهروا السلاح علي أصحابه وأثخنوهم بالجراح، فاستقبلهم الرماة بالنبال والسهام، وشد عليهم أميرالمؤمنين وأصحابه، فما هي إلاّ ساعات قلائل حتي صرعوا.[2] .

وفتش الإمام بين قتلاهم عن شخص اسمه مخرج وکان معروفاً بذي الثديَّة، فلما وجده بعد بحث کثير، کبَّر وکبَّر أصحابه لأن النبي (ص) کان قد أخبر عن هذه الفئة المارقة، وأنبأ عن علامتهم بوجود هذا الشخص بينهم. فالرواية تقول: لما عاد الرسول (ص) من حنين، وبدأ تقسيم الغنائم قام إليه رجل من بني تميم،يقال له الخويعة فقال له: إعدل يا محمد! فقال (ص): لقد عدلت. وأعاد إليه التميمي قوله ثانية فقال (ص) له: ويلک، إن لم أعدل أنا فمن يعدل؟.


وفي الثالثة رد عليه النبي (ص) بقوله: «سيخرج من ضضي ء هذا قوم يمرقون من الدِّين کما يمرق السهم من الرمية، يخرجون علي حين فرقة من الناس، تحقرون صلاتکم في جنب صلاتهم، يقرأون القرآن فلا يتجاوز تراقيهم بينهم رجل أسود مخرج اليدين إحدي يديه کأنها ثدي امرأة، وفي رواية عائشة: يقتله خير أمتي من بعدي».[3] .

لقد أشار النبي (ص) بکلمته الرشيدة تلک إلي وجود طوائف قشرية جاهلة في الأمة، وأنها ستظهر عند أول فرصة تسنح لهم، وذلک حين تقع الفتنة. فهذا الرجل الذي يأمر رسول العدالة بالعدل، ويري نفسه أحرص علي القيم من ذلک الذي اختاره الله تعالي لرسالاته لا يشبه إلاّ الرجل الذي يأمر عليّاً (ع) بالتوبة والإيمان، وهو ابن الإيمان، وعلي أکتافه قامت قواعده وترسخت أسسه.ولعل حرص الإمام (ع) علي التفتيش عن جثمان ذي الثدية، حيث بعث رجالا من أصحابه ليبحثوا عنه فلم يجدوه فاضطر للبحث عنه شخصياً.. أقول: لعل ذلک، کان لإتمام الحجة علي الناس، وليعلموا أن هؤلاء مارقون عن الدِّين بشهادة رسول الله (ص)، فلا يزايدون علي الناس بدينهم الأجوف. ولمعرفة أن هذه الفئة المارقة الملعونة، لم تنته بتصفية أفرادها جميعاً، إذ أنها حالة اجتماعية مستمرة سوف تبرز بين الفينة والأخري هنا أو هنالک، تحت راية هذا أو ذاک، حيث لم يخلُ عصرٌ منهم أو من أمثالهم ذوي الثفنات الغليظة، والمظاهر الدينية والتطرف للقشور. وتکفير الناس بغير حجة من الله، ولا دليل من العقل.. والخوارج من هنا، وأصحاب الأشعث المتخاذلون من هناک، شکَّلوا أکبر خطر علي النظام الإسلامي، في عهد الإمام (ع) وهم يشکِّلون ذات الخطر علي کل رسالة إصلاحية.. وفعلاً برزت بُثور عفنة من تابعي نهج الخوارج بعدئذ في أطراف دولة الإسلام، وشغلوا جانباً من اهتمام الإمام (ع) بما أتاح فرصة لمعاوية بتثبيت حکمه!









  1. سيرة الأئمة الأثني عشر: (ص 490).
  2. المصدر: (ص 491).
  3. المصدر: (ص 492).