ما فاته بالشجاعة أخذه بالمكر











ما فاته بالشجاعة أخذه بالمکر



کانت التعبئة الروحية، أعظم قوة اعتمد عليها جيش الرسالة، وبالرغم من أنها صنعت بطولات نادرة، إلاّ أن حجمها کان دون مستوي النصر النهائي. فلما استمرت الحرب طويلاً بدأ المتخاذلون يتنامون في صفوف الجيش الرسالي. أمَّا معاوية الذي لم يتورع عن التوسل بأية طريقة مهينة لنيل النصر، فقد عرف کيف يستفيد من الصعوبات التي ازدادت في صفوف جيش الإمام. لم تکن أکثرية الجيش عند الإمام في مستوي فهم الصراع الرسالي- الجاهلي. وإن الذي يطلع علي تاريخ صفّين يتمزق ألماً، کيف کانت حيل معاوية تنطلي عليهم، وکيف کان الإمام يستخدم براعته وبلاغته، وقوة شخصيته، وحضوره الدائم عند کل حادثة، بل وجولاته الحربية المباشرة، لکي يُفشل خطط معاوية الماکرة.. لقد سأله- ذات مرة- بعض اصحابه کيف لم ننتصر حتي الآن علي معاوية؟. فأمره أن يدنو منه ثم ناجاه: «إن قوم معاوية يطيعونه، ولا يطيعني قومي». وکم کان يؤلم ذلک القلب الکريم الذي غمره حب الرسالة، جهل المسلمين بها، وتفرقهم عن الحق. وکان معاوية يعرف ذلک ولا يکف عن محاولاته للتأثير علي معنويات جيش الإمام، وبث الفرقة فيهم. وحتي لو فشلت سائر حيله فإن نجاح واحدة منها کفيلة بإنقاذه من ورطته وإعطائه فرصة العودة إلي مؤامراته الخبيثة!

وهکذا خطط هذه المرة بطلب الصلح، والتحاکم إلي القرآن الکريم. في بداية الحرب ندب الإمام (ع) واحداً من فتيان الأنصار ليحمل القرآن إلي معسکر معاوية، ويطالبهم بالتحاکم إليه، وقد بشره بالشهادة في هذا السبيل، وضمن له الجنة، فأسرع الفتي إلي القوم، وهو يحمل کتاب الله علي يديه، ويطالبهم بالنزول علي حکمه ولکنهم أمطروه بوابل من السهام فسقط شهيداً، وسقط إلي جنبه کتاب الله العزيز. ولکن معاوية يجد نفسه مهزوماً لا محالة، وقد بدأ جيشه يولي الدبر أمام صولات جيش الإمام وبالذات أمام هجمات القائد المغوار مالک الأشتر، الذي أخذ يزيد من ضغطه علي جيش الشام. واستشار معاوية عمراً (ذلک الداهية المعروف) فأشار عليه بحمل المصاحف، فإذا بهم يحملون علي رماحهم ما يشبه المصاحف ويطالبون بحکم القرآن. ولعل جواسيس معاوية في جيش الإمام کانوا وزعوا الأماني علي أصحاب القلوب المريضة فوعدوا قيادات الجيش الکوفي، الذين عصرهم الإمام بعدالته ومساواته عصراً، المزيد من الأموال والمناصب. فإذا بالحيلة تنطلي علي الغوغاء، ولا تقف دونها القيادات العميلة، ولم تنفع شيئا محاولات الإمام (ع) والقيادات الرسالية الراشدة في توعية الغوغاء أو ردع العملاء. فلنستمع إلي التاريخ وهو يروي قصة المؤامرة الکبري، لعلنا ننتفع بها عبرة لما يشبهها اليوم. روي نصر بن مزاحم أن عليّاً (ع) غلس بالناس في صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأول سنة 37- وقيل عاشر صفر- ثم زحف إلي أهل الشام بعسکر القرآن، والناس علي راياتهم، وزحف إليهم أهل الشام، وقد کانت الحرب أکلت الفريقين، ولکنها في أهل الشام أشد نکاية وأعظم وقعاً. ثم تمضي الرواية تنقل کيف الْتَقي الجمعان في واقعة عظيمة کادت تُفني الطرفين، مما سمي ليلة الهرير، حيث استمر القتال من صلاة الغداة إلي نصف الليل، ومرت مواقيت أربع صلوات لم يسجدوا لله فيهن سجدة، ولم يصلوا لله صلاة إلاّ التکبير، ثم استمر القتال من نصف الليل إلي ارتفاع الضحي، وافترقوا علي سبعين ألف قتيل، في ذلک اليوم وتلک الليلة.[1] .

والإمام علي (ع) في القلب، بينما ابن عباس في الميسرة، والأشتر في الميمنة.والإمام يحرض القوم، ويدعو الرب، ويجالد بالسيف حتي يقول الراوي: لا والله الذي بعث محمداً بالحق نبياً، ما سمعنا برئيس قوم منذ خلق الله السماوات والأرض، أصاب بيده في يوم واحد ما أصاب (أي الإمام عليه السلام) يخرج بسيفه منحنياً فيقول: معذرة إلي الله وإليکم من هذا، لقد آن أفلقه، ولکن حجزني عنه أني سمعت رسول الله (ص) يقول کثيراً:


لا سيف إلاّ ذو الفقار
ولا فتي إلاّ علي


وأنا أقاتل به دونه (ص). قال (الراوي) فکنا نأخذه فنقوِّمه، ثم يتناوله من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف، فلا والله ما ليث بأشد نکاية منه في عدوه. وخطب الإمام في الناس وقال: «أيها الناس قد بلغ بکم الأمر وبعدوکم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس. وإن الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لکم القوم علي غير دين حتي بلغنا منهم ما بلغنا. وأنا عادٍ عليهم بالغداة، أحاکمهم إلي الله عزَّوجلَّ».[2] .

فبلغ ذلک معاوية فاستشار عمرو بن العاص، فقال له فيما قال: ألق إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا، وإن ردوه اختلفوا. أدعهم إلي کتاب الله. فأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف علي رؤوس الرماح. وبالرغم من أن القيادات الرسالية قد حذروا من مکر معاوية، وقال عدي بن حاتم للإمام: (وقدجزع القوم،وليس بعد الجزع إلاّ ما تحب فناجز القوم)، وهکذا قال مالک الأشتر وعمرو بن الحمق وآخرون. إلاّ أن أکثرية الناس کانوا قد ملّوا الحرب فقالوا: أکلتنا الحرب وقتلتِ الرجال، فقال الإمام (ع): «إنه لم يزل أمري معکم علي ما أحب إلي أن أخذت منکم الحرب، وقد والله أخذت منکم الحرب وترکت، وأخذت من عدوکم فلم تترک. وإنها فيهم أنکي وأنهک، إلاّ أني کنت بالأمس أميرالمؤمنين، فأصبحت اليوم مأموراً، وکنت ناهياً فأصبحت منهيّاً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملکم علي ما تکرهون».[3] .

وبعد ان رضينا بالتحاکم، وتقرر أن يختار کل فريق شخصاً يتفاوضان في شؤون الخلافة، واختار معاوية عمرو بن العاص. ذلک الداهية المعروف والطامع في ولاية مصر بعدئذ وقع الإختلاف- مرة أخري- في أصحاب الإمام. فبينما اختار لهم الإمام عبدالله بن العباس، وقال: «إن عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلها عبدالله، ولا يحلُّ عقدة إلاّ عقدها». فقال الأشعث: لا والله لا يحکم فينا مضريان حتي تقوم الساعة. فاختار لهم مالک الأشتر، فرفضوا، وقالوا له سعَّر الارض علينا، غير الأشتر. فاصروا علي اختيار أبي موسي الأشعري، والذي اعتزل الإمام وخذَّل الناس عنه. وفي الواقع إن أصحاب الإمام (ع) کانوا طوائف شتي، المخلصون، والمنافقون، والمتطرفون، الذين اشترکوا في القيام ضد عثمان،وکانوا يظنون أنهم أحق بالأمر من علي وأصحابه!! وهم الذين انتهي بهم المطاف إلي التمرد علي الإمام وسُمُّوا بالخوارج.









  1. المصدر: (ص 192-193).
  2. المصدر: (ص 194).
  3. المصدر:(ص 195).