معاوية يعترف ويعاند











معاوية يعترف ويعاند



ومعاوية- بدوره- کان يعترف بفضائل الإمام (ع) وأنه الأفضل بعد رسول الله (ص) إلاّ أنه کان يتمسک بقميص عثمان، ويري أنه أحق الناس به. وإذا کانت حجة معاوية واهية فإن دهاءه ومکره وأسباب القوة التي اجتمعت عنده کان يغنيه عن قوة الحجة. وکان يعترف بذلک مما يکشف عن طبيعة الصراع بينه وبين الإمام (ع). وقد حفظ التاريخ سجلاً کبيراً من اعترافات معاوية بفضل الإمام (ع) وبالذات في الرسائل الخاصة المتبادلة بينه وبين کبار الأصحاب، ولکن الرسالة الأبلغ کانت التي بعثها إلي محمد بن أبي بکر، وکان محمد من أشد المدافعين عن نهج الإمام علي (ع). لقد بعث معاوية إلي محمد ابن ابي بکر کتاباً جاء فيه من معاوية بن أبي سفيان إلي الزاري علي أبيه محمد بن أبي بکر: سلام علي أهل طاعة الله. أما بعد، فقد أتاني کتابک، لرأيک فيه تضعيف، ولأبيک فيه تعنيف. ذکرت حق ابن أبي طالب، وقديم سوابقه وقرابته واحتجاجک بفضل غيرک لا بفضلک. فأحمد إلهاً صرَف الفضل عنک وجعله لغيرک. وقد کنا- وأبوک معنا- في حياة نبيِّنا نري حق ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا، فلما اختار الله لنبيّه (صليا لله عليه وآله) ما عنده کان أبوک وفاروقُه أول من ابتزَّه وخالفه، ثم قام عثمان يهتدي بهديهما ويسير بسيرتهما إلخ.[1] .

وهکذا يعترف معاوية بفضل الإمام عليه وعلي کل أصحاب الرسول محاولاً إثارة عصبية محمد بن أبي بکر. وفي حوار جري بين معاوية وعمر بن العاص الذي کان من قادة العرب في الجاهلية، وکان حليفاً تاريخياً لبني أمية، قال له معاوية: يا أباعبدالله، إني أدعوک إلي جهاد هذا الرجل الذي عصي ربه، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة وفرق الجماعة وقطع الرحم. قال عمرو: إلي من؟ قال: إلي جهاد علي. فقال له عمرو: ما أنت وعلي بِعِکْمَي[2] بعير، مالک هُجرتُه، ولا سابقتُه، ولا صحبته، ولا جهاده، ولا فقهه، ولا علمه. والله إن له- مع ذلک- حّداً وحدوداً، وحظاً وحظوة وبلاء من الله حسناً. فما تجعل لي إن شايعتک علي حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟ قال: حکمک. قال: مصرَ طُعمة. فتلکأ عليه معاوية. قال له: إني أکره لک أن يتحدث العرب عنک أنک إنما دخلت في هذا الأمر لعرض الدنيا. قال: دعني عنک.

هکذا تم التحالف بين معاوية وبين قائد جاهلي جمع خبرة العرب في الحرب.


وبعد إجراء هذه الصفقة التي تعکس طبيعة التجمع الأموي غضب مروان- وهو أحد القيادات الأموية- وقال: ما لي لا أُشْتَرَي کما اشْتُرِي عمرو؟. فقال له معاوية: إنما تُباع الرجال لک.[3] .

وکان يشير معاوية بذلک إلي أن مروان جزء من الحزب الأموي وأنه إنما يسعي لإعادة أمجاده الجاهلية. ومرة أخري اعترف معاوية لقراء الشام، وهم الطائفة المؤمنة فيهم، اعترف بفضل الإمام (ع) فحين قالوا له: علام تقاتل عليّاً وليس لک مثل صحبته ولا قرابته ولا سابقته؟. قال لهم: ما أقاتل عليّاً، وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته، ولا هجرته، ولا قرابته، ولا سابقته. ولکنه تشبث عندهم بقميص عثمان فقال لهم: ولکن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً؟ قالوا: بلي. قال: فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به، ولا قتال بيننا وبينه.[4] .

ولکن الإمام (ع) أجاب عن هذا الطلب الماکر، فقال: في رسالته إلي معاوية نقلها المبرد في الکامل هذا نصها: من أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) إلي معاوية بن صخر بن حرب. أما بعد: «فإنه أتاني منک کتاب امرئ ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده. دعاه الهوي فأجابه، وقاده الضلال فاتَّبعه. زعمتَ أنما أفسد عليک بيعتي خطيئتي في عثمان، ولعمري ما کنتُ إلاّ رجلاً من المهاجرين، أوردتُ کما وردوا، وأصدرتُ کما صدروا، وما کان الله ليجمعهم علي الضلال ولا يضربهم بالعمي. وبعد: فما أنت وعثمان؟. إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولي بذلک منک. فإن زعمت أنک أقوي من دم أبيهم منهم، فادخل في طاعتي ثم حاکِمِ القومَ إليّ أحملک وإياهم علي المحجة».[5] .

هکذا أتم الإمام (ع) الحجة علي معاوية بما يلي: أولاً: بأن شرعية عمله منبثقة من أنه إجماع المهاجرين الذين لايجمعهم الله علي الضلال. ثانياً: بأن بني عثمان هم أولياء الدم، وليس معاوية. ثالثاً: بأن طريقة المطالبة بالدم، هي التحاکم إلي السلطة الشرعية وليست التمرد عليها باسم المطالبة بالدم. إلاّ أن معاوية لم يکن يأبه بهذه الحجج، لأنه کان يسعي لإعادة أمجاد بني أمية الجاهلية. وقد اجتمع إليه الموتورون الحاقدون علي الإسلام، من بقايا العهد البائد. وقد أقام لهم نظام مصالح، وحوَّل السلطة الي شرکة مساهمة، بين الطلقاء والأدعياء والمترفين. وهکذا جري تبادل رسائل بين الإمام (ع) ومعاوية ردحاً من الزمن، وقد قام أهل الإصلاح بمحاولات شتي لردع معاوية عن سفک دماء المسلمين، فلم يفلحوا. وفي آخر رسالة بعثها الإمام (ع) قبل قراره بالمواجهة العسکرية کتب يقول (بعد حديث طويل): «وإني أدعوکم إلي کتاب الله وسنَّة نبيِّه، وحقن دماء هذه الأمة. فإن قبلتم أصبتم رشدکم، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشق عصا هذه الأمة، لن تزدادوا من الله إلاّ بُعْداً، والسلام». فکتب إليه معاوية:


ليس بيني و بين قيس عتابٌ غير
طعن الکلي وضرب الرقاب[6] .


وکان الجواب بمثابة إعلان حالة الحرب. فکتب الإمام (ع) إلي عماله في الآفاق يحرضهم للقتال، کما عبَّأ قدرات جيش الکوفة العسکرية، بخطب حماسية لاهبة. وقد ساهم نجلاه الإمامان الحسن والحسين (ع) وأصحاب رسول الله، وبالذات البدريون وأصحاب بيعة الرضوان منهم ساهموا- بما کان لديهم من مکانة مرموقة بين المسلمين- في تعبئة الطاقات الإيمانية في الأمة. ولقد کان مع الإمام (ع) من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً، منهم سبعة عشر من المهاجرين، وسبعون من الأنصار. وشهد معه من الأنصار ممن بايع تحت الشجرة (بيعة الرضوان) تسعمائة، وکان مجمل عدد أصحاب رسول الله، في رکب الإمام (ع) ألفين وثمانمائة رجل.[7] .

وکان الإمام (ع) يعطيهم مکانتهم المناسبة لهم، وهم- بدورهم- کانوا متفانين في الدفاع عن حق الإمام في الخلافة، لمعرفتهم بفضله، وعلمهم بواقع بني أمية، أعدائه وأعداء الإسلام. وهکذا نجد الإمام (ع) لا يبت في أمر، إلاّ بعد أن يستشيرهم، ولم يعقد العزم علي الحرب إلاّ بعد أن سألهم وقال وهو يخاطبهم: «أما بعد!. فإنکم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مبارکو الفعل والأمر. وقد أردنا المسير إلي عدونا وعدوکم، فأشيروا علينا برأيکم».[8] .

فبادروا بالتأييد، واستشهد کل منهم بحجة بالغة في شرعية قتال بني أمية. فقال عمار بن ياسر: يا أميرالمؤمنين، إن استطعت أن لاتقيم يوماً واحداً فأشخص بنا قبل استعار نار الفجرة، واجتماع رأيهم علي الصدود والفرقة، وادعهم إلي رشدهم وحظهم. فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا إلاّ حربنا، فوالله إن سفک دمائهم، والجد في جهادهم، لقربة عند الله، وهو کرامة منه.[9] .

أما عدي بني حاتم، فقد أوضح خلفية بني أمية في القتال ضد الإمام (ع) وقال: إن القوم لو کانوا لله يريدون، أو لله يعملون ما خالفونا. ولکن القوم إنما يقاتلون فراراً من الأسوة وحبّاً للأثرة، وضنّاً بسلطانهم، وکرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلي إحنٍ في أنفسهم، وعداوة يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها- يا أميرالمؤمنين- بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم. ثم التفت إلي الناس فقال: کيف يبايع معاوية عليّاً، وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجده عتبة في موقف واحد.[10] .

لقد لخص هذا الصحابي الجليل طبيعة الموقف في کلمات. فإن الحزب الأموي يطلب الدنيا ويحاول الحفاظ علي مکاسبه في السلطة، ويريد الإنتقام من الإمام (ع) والتابعين له، لما أنزلوا به هزائم نکراء في صدر الإسلام. وإنها بالتالي الردة الجاهلية بکل معني الکلمة. هکذا نجد أصحاب النبي محمد (ص) يجتهدون في الدفاع عن الخلافة الراشدة، وقد استشهد الإمام (ع) في أکثر من مناسبة بموقف الأصحاب منه ومن بني أمية. وفي المعرکة شکل الإمام کتيبة خاصة بهم يقودها شخصيّاً، سميت بالکتيبة الخضراء. وقد أبلت هذه الکتيبة في الدفاع عن الإسلام وحرماته بلاءً حسناً. والواقع أن حضور هذه الکتيبة في معرکة صفّين کان دليلاً علي عافية الأمة ويقظة ضميرها، فبعد وفاة الرسول (ص) بربع قرن حفل بالأحداث السياسية العظيمة، ولاتزال الفئة التي نصرت الرسالة وتعرضت للآلام وقدمت التضحيات، لاتزال تخوض غمار معرکة الحق ضد الباطل، دون أن تميل مع رياح الشهوات وعواصف السياسة. ومن المعروف أن کثيراً من هؤلاء الصحابة الکرام کان قد تقدم بهم العمر، حتي بلغوا من الکبر عتيّاً، ولکنهم لايزالون في مقدمة المجاهدين، وفيهم عمار بن ياسر، الذي فقد والديه شهيدين في صدر الإسلام، وتعرض للضرب والإهانة منذ الأيام الأولي للبعثة، وهو اليوم يناهز التسعين من عمره ويشد علي وسطه حزاماً تنتصب قامته به، ثم يدخل المعرکة، وهو ينادي الرواح الرواح إلي الجنة!. هکذا يصنع الإيمان بالقلوب الطاهرة والنفوس الزکية.









  1. المصدر: (ص 93).
  2. العکم بالکسر: العدل والعکمان: العدلان.
  3. المصدر: (ص 74).
  4. المصدر: (ص 84).
  5. المصدر: (ص 79).
  6. المصدر: (ص 90).
  7. المصدر: (ص 86) نقلا عن المسعودي.
  8. المصدر.
  9. المصدر: (ص 86).
  10. المصدر: (ص 88).