حرب الجمل











حرب الجمل



کان أبوبردة عوف الأزدي ممن تخلف عن نصرة الإمام في الکوفة، فلما عاد الإمام فاتحاً من البصرة، عاتب المتخلّفين، وقال: «أَلاَ إنه قد قعد عن نصرتي منکم رجال، فأنا علَيهم عاتبٌ زارٍ، فاهجروهم وأسمعوهم ما يکرهون حتي يعتبوا، لِيُعرفَ حزبُ الله عند الفرقة». فقام إليه أبوبردة، وقال: يا أميرالمؤمنين أرأيت القتلي حول عائشة والزبير وطلحة بِمَا قُتلوا؟ قال (ع): قَتلوا شيعتي وعمالي وقَتلوا أخا ربيعة العبدي رحمة الله عليه في عصابة من المسلمين، قالوا: لا ننکث کما نکثتم، ولا نغرر کما غررتم، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فسألتهم أن يدفعوا إليَّ قتلة إخواني أقتلهم بهم، ثم کتاب الله حکم بيني وبينهم، فَأَبوا عَليَّ ذلک وقاتلوني، وفي أعناقهم بيعتي ودماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم بهم. ثم خاطبه قائلاً: أفي شک أنت من ذلک؟ قال: «قد کنت في شک، فأما الآن فقد عرفت واستبان لي خطأ القوم، وإنک أنت المهديّ المهدي المصيب».[1] هکذا اختصر الإمام جرائم الناکثين. ومرة أخري حينما تواجه الفريقان بالبصرة، دعا الإمام طلحة والزبير وحاججهما فقال: «لعمري لقد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً، إن کنتما أعددتما عند الله عذراً فاتَّقيا الله سبحانه ولا تکونا کالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنکاثاً. ألم أکن أخاکم في دينکما، تحرمان دمي وأحرم دماءکما؟ فهل من حدث ما أحل لکما دمي». قال طلحة: أَلَّبت الناس علي عثمان. فقال علي: «يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين. يا طلحة تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قتلة عثمان، يا طلحة جئت بعرس رسول الله (ص) تقاتل بها، وخبَّأت عرسک، أما بايعتني؟»[2] .

ثم ذکَّر الإمام (ع) الزبير ببعض المواقف مع رسول الله (ص)، فاعتزل المعرکة،ولما اعتزل الزبير الحرب وتوجه تلقاء المدينة، تبعه ابن جرموز فغدر به، وعاد بسيفه ولامة حربه إلي الإمام (ع) فأخذ الإمام يقلِّب السيف ويقول: «سيف طالما کشف به الکرب عن وجه رسول الله (ص)»!. فقال ابن جرموز: الجائزة يا أميرالمؤمنين، فقال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: «بشر قاتل ابن صفيه (الزبير) بالنار»!. ثم خرج ابن جرموز علي عليِّ مع أهل النهروان فقتله معهم فيمن قتل[3] .

ومن خلال أسطر التاريخ نکتشف أن الزبير وطلحة وعائشة کانوا جميعاً، مترددين في مسيرهم، وکم قرر الواحد منهم العودة. إلاّ أن هناک يداً خفية کانت تثبط عزمهم وتعيدهم إلي قلب الفتنة من جديد. فهذا طلحة يأتي إلي البصرة فيخطب الناس، ويدعوهم إلي خلع الإمام (ع) فيقولون له: يأ ابا محمد قد کانت کتبک تأتينا بغير هذا، فسکت ولا يجد جواباً، ويقدم الزبير للخطاب. وهذه عائشة تمر في مسيرها إلي البصرة بماء يسمَّي (الحوأب) فتنبح بها کلابه. قالت: أي ماء هذا؟ قيل هذا ماء حوأب. فإذا بها تصرخ بأعلي صوتها ثم تضرب عضد بعيرها فتنيخه ثم تقول: أنا والله صاحبة کلاب الحوأب طروقاً رُدُّوني، رُدُّوني، رُدُّوني..هکذا ظلت هنالک ومعها قومها يوماً وليلة، فخدعها عبدالله بن الزبير، وجاؤوا لها بأربعين رجلاً وقيل بخمسين من الأعراب رشَوهم فشهدوا أن هذا ليس بماء الحوأب[4] .

ويظهر عبدالله بن الزبير، في الصورة مرة أخري حينما أراد والده الاعتزال، فأنحاه، وغرَّر به.. مثله مثل محمد بن طلحة. کماأن مروان بن الحکم، يظهر في الصورة في بعض الأحيان وهو يحرض علي الإستمرار في القتال.. هکذا نکتشف الأصابع التي کانت وراء الشخصيات الظاهرة في حرب الجمل، وهم تحالف بني أمية مع بعض الطامعين في السلطة، من غيرهم، تستَّروا بهم، وقالوا لأنفسهم: لو ظفروا کان لنا معهم مثلما کان أيام الخليفة الثالث. أما إذا فشلوا، فقد ضربنا عصفورين بحجر واحد: فمن جهة تخلصنا من المهاجرين والأنصار الطامعين في الخلافة، حيث يصفي بعضهم بعضاً. ومن جهة ثانية سقطت هيبتهم بين المسلمين وظهروا في أعين الناس بمظهر الباحث عن مصالح شخصية. وهکذا نستطيع أن نفسر وقوف الحزب الأموي إلي جانب طلحة والزبير وعائشة وهم من أشد المحرضين ضد عثمان، وضد استئثار بني أمية بالسلطة والثروة في عهده. وکان الناس يتساءلون أنهم يريدون البصرة يطالبون أهلها بدم عثمان وقاتِلوا عثمان معهم. فقد روي الطبري بسنده عن المغيرة بن الأخنس قال: لقي سعيد بن العاص، مروان بن الحکم وأصحابه بذات عرق فقال: أين تذهبون وثأرکم علي أعجاز الإبل؟ (قال ابن الأثير يعني عائشة وطلحة والزبير). أُقتلوهم ثم ارجعوا إلي منازلکم، لا تقتلوا أنفسکم. قالوا: بل نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً[5] .

ولعلهم أشاروا في نهاية حديثهم إلي أن هدفهم ضرب الناس ببعضهم للتخلص منهم جميعاً، وهذا يفسر أيضاً ما ذکره ابن الأثير من أن مروان بن الحکم هو الذي رمي سهماً نحو طلحة فأصابه في رجله وقتله.[6] لقد أبلغ أميرالمؤمنين (ع) حينما بيَّن في أکثر من خطاب طبيعة هذه الحرب وأن وراءها قريش التي حاربها لأجل الرسالة وهم کافرون، ويحاربها اليوم لذات الهدف، وهم مفتونون. يقول الشيخ المفيد: لما نزل أميرالمؤمنين (ع) الربذة لقي بها آخر الحاج فاجتمعوا إليه ليسمعوا من کلامه- وهو في خبائه- قال ابن عباس فأتيته فوجدته يخصف نعلاً، فقلت له: نحن إلي أن تصلح أمرنا أحوج منا إلي ما تَصلح. فلم يکلمني حتي فرغ من نعله، ثم ضمها إلي صاحبها وقال لي: قوِّمها. فقلت: ليس لهما قيمة، قال: علي ذاک، قلت: کسر درهم قال: «والله لَهُمَا أحَبُّ إلَيَّ من أمرکم هذا، إلاّ أن أُقيم حقّاً أو أدفع باطلاً». قلت إن الحاجَّ قد اجتمعوا ليسمعوا من کلامک، فتأذن لي أن أتکلم، فإن کان حسناً کان منک، وإن کان غير ذلک کان مني؟ قال: لا، أنا أتکلم. ثم وضع يده علي صدري، وکان شثن الکفين فآلمني ثم قام، فأخذت بثوبه، وقلت نشدتک الله والرحم (وکأنه خاف أن يتکلم بما ينفرِّ الحاجّ) قال: لا تنشدني، ثم خرج، فاجتمعوا عليه، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: «أما بعد فإن الله بعث محمداً وليس في العرب أحد يقرأ کتاباً ولا يدَّعي نُبَّوة، فساق حتي بوأهم محلتهم، وبلغهم الناس الي منجاتهم. أما والله ما زلت في ساقتها. ما غيّرت ولا بدّلت ولا خُنت حتي قولت بحذافيرها، مالي ولقريش؟. أما والله لقد قاتلتهم کافرين، ولأُقاتلنهم مفتونين، وإن مسيري هذا عن عهدٍ إليّ فيه. والله لأبقرن بالباطل حتي يخرج الحق من خاصرته. ما تنقم منّا قريش إلاّ أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حَيْزِنا». وأنشد:


أَدَمْتَ- لَعمري- شُريک المحضَ خالصاً
وأکلک بالزُّبد المقشرة البُحُرَا


ونحن وهبناک العلاء ولم تکن عليّاً
وحُطنا دونک الْجرد والسُّمرا[7] .


وهکذا نجد قريشاً- التي لاتزال أحلام السلطة علي العرب تراودها- تتظاهر بالدين، وتقود حرباً ضده وقد استعادت قواها المنهارة، مستغلة ضعف الخليفة الثالث، وغررت ببعض أصحاب الرسالة، وطمعتها في الخلافة وذلک لعدم وضوح الرؤية عندهم. فهذا طلحة الذي کان يطمع في الخلافة بعد الخليفة الثاني فيؤلب أهل البصرة ضد الخليفة الثالث، ويحرضهم علي قتله، يأتي بنفسه إلي البصرة وينادي مناديه: من کان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا به فجي ء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلاّ قليل[8] بالأمس کان يقودهم، واليوم ينقلب عليهم ويقتلهم. أوليس هذا غريباً؟ بَلَي، ولکن طلحة کان بالأمس قائداً، وأصبح اليوم رقماً في حسابات بني أمية، وأضحي يصفِّي حزبه بنفسه. ولم يکن يشک أميرالمؤمنين في وجوب قتالهم لأنه کان يعرف طبيعتهم وأهدافهم الخبيثة ولأن رسول الله (ص) کان قد أخبره بمسيره إليهم، وأنه سوف يقتل الناکثين.. نعم، إنه لاقي صعوبة حقيقية في توعية الناس، ولولا أهل البصائر من المهاجرين والأنصار الذين نهضوا معه ضد الفئة الناکثة، وآزروه ونصروه بذات القوة التي آزروا بها رسول الله (ص) لکانت قريش بمکائدها وقوتها وعصبياتها تشکِّل خطراً حقيقياً ضد بقاء الإسلام. ولقد استنهض الإمام (ع) جيش الکوفة الذين فتحوا بلاد فارس، ثم استقروا هناک يحمون ثغور الإسلام ويبعثون بالسرايا لفتح المزيد من البلاد، وإنما اختارهم لعلمه بوجود أهل البصائر من أصحاب النبي (ص) والفقهاء والقرّاء بينهم. ولقد قال لهم حين التقي بهم في منطقة ذي قار: «يا أهل الکوفة، إنکم من أکرم المسلمين وأقصدهم تقويماً، وأعدلهم سنّة وأفضلهم سهماً في الإسلام، وأجودهم في العرب مرکباً ونصاباً، أنتم أشد العرب وُدّاً للنبي (ص) وأهل بيته، وإنما جئتکم ثقة- بعد الله- بکم للذي بذلتم من أنفسکم عند نقض طلحة والزبير، وخلعهما طاعتي وإقبالهما بعائشة للفتنة».[9] .

ولقد استمرت عرب الکوفة، في ولائها لآل البيت ومحاربتها للخط الأموي حتي أزال الله دولة بني أمية في عهد العباسيين. وحينما عَبَّأ الإمام (ع) جيشه، سار بهم إلي البصرة حتي وردها، وألقي خطاباً هامّاً بيَّن فيه مشروعية قتاله للناکثين، کما أوضح استراتيجية حربه هذه، فقال فيما قال: «عباد الله!. انهدوا إلي هؤلاء القوم، منشرحةً صدورکم بقتالهم، فإنهم نکثوا بيعتي، وأخرجوا «ابن حنيف» عاملي، بعد الضرب المبرِّح والعقوبة الشديدة، وقتلوا السبابجة، وقتلوا حکيم بن جبلة العبدي، وقتلوا رجالاً صالحين، ثم تتبَّعوا منهم من يحبني يأخذونهم في کل حائط، وتحت کل رابية، ثم يأتون بهم يضربون رقابهم صبراً. مالهم، قاتلهم الله أنَّي يؤفکون!. انهدوا إليهم وکونوا أشداء عليهم والْقَوهم صابرين محتسبين، تعلمون أنکم منازلوهم ومقاتلوهم وقد وطنتم أنفسکم علي الطعن والضرب ومبارزة الأقران. وأيُّ امرئ منکم أحسَّ من نفسه رباطة جأش عند اللقاء، ورأي من إخوانه فشلاً، فليذبَّ عن أخيه الذي فضل عليه، کما يذب عن نفسه، فلو شاء الله لجعله مثله».[10] .

وکان الإمام (ع) يرفض معاملة الناکثين کما لو کانوا کفاراً، بل منع أصحابه من المبادرة بالقتال، ولم يأذن لهم به إلاّ بعد أن رمي اصحاب الجمل عسکره بالنبل رمياً شديداً متتابعاً، فضج إليه أصحابه وقالوا: عقرتنا سهامهم يا أميرالمؤمنين، فلم يأذن لهم حتي بعث إلي عسکر البصرة رجلاً يحمل مصحفاً ويدعوهم إلي التحاکم إليه فقتلوه فأصدر أمره بقتالهم. وظل القتال ثلاثة أيام وأبدي أصحاب النبي (ص) من المهاجرين والأنصار البطولات التي اشتهروا بها أيام رسول الله (ص)، وقد اجتمعوا في کتيبة واحدة سميت بالکتيبة الخضراء، يقودهم سيدهم وأميرهم الإمام علي (ع) وقد هجمت في اليوم الأخير علي الجمل الذي کان يعتبر راية الناکثين، فعقروه. فلما سقط انهزم جميعهم، وانتهت المعرکة بانتصار الإمام (ع) الذي نادي مناديه: ألاَّ تتبعوا مُدبراً، ولا تجهزوا علي جريح، ولا تدخلوا الدور، ولا ترزأوا سلاحاً ولا ثياباً ولا متاعاً. ومن ألقي سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. ثم مشي الإمام (ع) إلي عائشة وهي الباقية من قيادات المعارضة فاستقبلته صفية بنت الحارث وقد ثکلت بابنها فقالت له: يا علي!. يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجمع، أيتم الله منک بنيک کما أيتمت ولد عبدالله منه. فمشي عنها ولم يرد عليها. ثم دخل علي عائشة فسلم عليها وقعد عندها، فأخذت تعتذر إليه وتقول: إني لم افعل. فلما خرج الإمام أعادت صفية قولها المنکر للإمام فکفَّ عنها ولکنه قال: وهو يشير إلي بعض غرف الدار: أَما لَهممتُ أن أفتح هذا الباب وأقتل مَن فيه. ثم هذا فأقتل مَن فيه، ثم هذا فأقتل من فيه. وکان أناس من مجرمي الحرب قد لجأوا إلي عائشة، منهم مروان بن الحکم وعبد الله بن الزبير، فتغافل الإمام (ع) عنهم. فقال رجل من الأزد وهو يشير إلي صفية، والله لاتغلبنا هذه المرأة فغضب الإمام، وقال: «صه، لا تهتکنّ ستراً، ولا تدخلنّ داراً، ولا تهيجنّ امرأة بأذي وإن شتمن أعراضکم، وسفهن أمراءکم وصلحاءکم، فإنهن ضعاف. ولقد کنا نؤمر بالکف عنهن، وإنهن لَمُشرکات».[11] وهکذا أدب الإمام أصحابه کيف يتعاملون مع أعدائهم بالرفق، بالرغم من أن أنهراً من الدم قد جرت بينهم. ثم مضي الإمام إلي بيت المال وقسم ما فيه علي الجند بالسوية، فأعطي کل واحد خمسمائة، وأخذ ايضاً خمسمائة، وجهَّز عائشة بما تحتاج من مرکب وزاد، وأرسلها إلي المدينة واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وأرسل معها أخاها محمداً، وکان من أقرب أصحاب الإمام إليه. واستخلف علي البصرة ابن عباس وکتب إليه عهداً قال فيه.. فارغب راغبهم بالعدل عليه والانصاف له والاحسان إليه، وحل عقدة الخوف عن قلوبهم. وکتب إلي أمراء الجيش وهو يحدد معالم حکمه: «لکم عندي ألاَّ أحتجز دونکم سرّاً إلاّ في حرب، ولا أطوي عنکم أمراً إلاّ في حکم، ولا أؤخر حقّاً لکم عن محله، ولا أرزأکم شيئاً وإن تکونوا عندي في الحق سواء». وعاد أدراجه إلي الکوفة ورايات النصر ترفرف عليه، وأبي أن يدخل قصر الإمارة بل اختار بيت جعدة بن أبي هبيرة المخزومي، وکان ابن أخته أم هاني، وقال عن قصر الإمارة: إنه قصر خبال لا تُنزلونيه.









  1. المصدر: (ص 54).
  2. المصدر: (ص 38).
  3. المصدر: (ص 39) عن أبن أبي الحديد.
  4. المصدر: (ص 25).
  5. المصدر: (ص 22).
  6. المصدر: (ص 42).
  7. المصدر: (ص 24).
  8. المصدر: (ص 31).
  9. المصدر: (ص 35).
  10. المصدر:(ص 37).
  11. المصدر: (ص 55).