هكذا سعت الخلافة نحو الإمام











هکذا سعت الخلافة نحو الإمام



وحملت أمواج الإضطراب سفينة الأمة بعيداً عن شواطئ الأمان، واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير، وأجمعوا علي بيعة الإمام (ع) فجاؤوا إليه مسرعين وقالوا: لابد للناس من إمام.

قال: لا حاجة لي في أمرکم، فَمَنِ اخترتم رضيت به.

قالوا: ما نختار غيرک؛ وأضافوا: إنا لا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منک.

قال: لاتفعلوا، فإني أکون وزيراً خيراً من أن أکون أميراً.

فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتي نبايعک.

قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لاتکون خفيّةً ولا تکون إلاّ عن رضا المسلمين.

فخشي الناس عليّاً، فقالوا نبايعک، فقد تري ما نزل بالإسلام.

فقال: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان. لاتقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول».

فقالوا ننشدک الله، ألاَ تري ما نحن فيه؟ ألاَ تري الإسلام؟ ألاَ تري الفتنة؟

فقال: «قد أجبتکم وإني إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم».[1] .

أجل، إن الإمام (ع) يرفض الخلافة لأن أمواج الفتنة قد بلغت أعلي مد، ويود لو يکون وزيراً يساهم من موقع حُرٍّ في إخماد نيران الفتنة، ولکن لا أحد رشح نفسه للخلافة، ولا أحد کان يقبل بغير الإمام (ع).

والإمام يرفض بيعة أهل الحل والعقد من دون رضا الناس، ويري ذلک حق عامة الناس، فيجعلها في المسجد علي الملأ العام.

ويشترط عليهم بأن يقودهم علي علمه، لا بجهلهم، ووفق سنّة الرسول، لا مصالح أصحابه وضغوط القوي السياسية.

واستقبل الإمام عهده، بالثورة ضد الوضع الفاسد، وقد عقد عزمات قلبه جميعاً علي مواجهة کل تلک العقبات التي خضع لها أو توقف عندها من کان قبله، وأعظمها القوة السياسية المتنامية عند بني أمية، ومن تحالف معهم من بقايا العهد الجاهلي.

والواقع أن تصفية هذه القوة، کانت من أعظم المهام الرسالية التي بدأها الرسول، وتابع أصحابه من بعده نهجه بفتور، حتي إذا جاء الإمام (ع) وکانت الظروف مؤاتية، نهض بها بعزم راسخ.

أو ليسوا هم الشجرة الملعونة في القرآن، أوليس الرسول (ص) قد حذَّر منهم، وقال: «إذا رأيتم معاوية هذا علي منبري فاقتلوه، ولن تفعلوا».

إنهم کانوا أکبر قوة سياسية في الجزيرة، وکان الرسول قد احتواهم، لعلهم يؤوبون إلي رشدهم، ويکيِّفون أنفسهم مع الواقع الجديد، أو تقوي شوکة الإسلام فتقضي عليهم في الوقت المناسب. وها قد حان ذلک الوقت، فإنهم ليس فقط لم يذوِّبوا أنفسهم في بوتقة المجتمع الإسلامي. بل ما فتئوا يدبِّرون المؤامرات ضد القوي الرسالية، ويتحيَّنون الفرص للانقضاض علي السلطة.

ومن هنا نجد الإمام عليَّاً (ع) يبدأ عهده بالهجوم علي بني أمية وامتيازاتهم التي ابتزُّوها من الخليفة السابق. يروي ابن أبي الحديد: عن ابن عباس أن عليّاً خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: «إن کل قطيعة أقطعها عثمان، وکل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شي ء، ولو وجدته قد تزوّج به النساء وفُرِّق في البلدان لرددته إلي حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور أضيق».[2] .

وعزل الإمام عمال الخليفة السابق وهم حکام الولايات الإسلامية، وأصرَّ علي عزل معاوية، قائد الحزب الأموي السياسي والعسکري، والذي کان يرضي من الإمام إبقاءه علي الشام کما فعل السابقون، لعله يجد فرصة أخري لتحقيق هدف حزبه في السلطة. لقد کانت تلک أعظم مسؤوليات الإمام (ع) إذ عهد إليه رسول الله (ص) تکميل ما بدأه من تصفية القوي الجاهلية وبقاياها، وقال له مرة: «تقاتلهم علي تأويله، کما قاتلناهم علي تنزيله». وإن أهل البصائر من أصحاب رسول الله (ص) واعون تماماً لهذه الرسالة الإلهية التي يجب عليهم تنفيذها، وإن الإمام إنما قبل بالإمارة لتحقيق هذا الهدف. وبذل قصاري جهده لتحقيق واحد من هدفين متدرجين:

1- فإما سحق بقايا النظام الجاهلي وإقامة نظام العدل الإسلامي.

2- وإما تعرية هذه القوة الجاهلية وفضحها وإيجاد حرکة رسالية تهدف إلي القضاء عليها وتمنعها من تحقيق کل أهدافها. ولأن الظروف لم تسمح لتحقيق الهدف الأول، فلقد حقق الهدف الثاني، وأنشأ في الأمة طليعة رسالية ناضلت ضد بني أمية حتي تمت تصفيتهم کاملاً دون أن يحققوا هدفهم الرئيسي، وهو إعادة الناس إلي الجاهلية. والقصة التالية تکشف جانبا من أهداف معاوية. کان معاوية- بعد أن تم له الأمر ظاهرا- يستمع إلي الأذان، وإلي جانبه بعض خواصه،وإذا به يتميز من الغيظ عندما يسمع المنادي يهتف «أشهد أن محمداً رسول الله» فيسأله صاحبه عن ذلک فيقول: إن أخا تيم حکم وذهب، فقال الناس رحم الله أبابکر. وکذلک أخو عدي، لم يزد الناس بعد حکمه أن قالوا: رحم الله عمر.ولکن هذا ابن أبي کبشة (أي رسول (ص) لم يَرْضَ حتي قُرن اسمه باسم الله، لا والله إلاّ دفناً دفناً. أمّا يزيد ابنه الماجن فقد أنشد قائلاً:


لعبت هاشم بالملک
فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل


من هنا وضع أميرالمؤمنين (ع) استراتيجيته علي أساس محاربة الباطل وتصفية الحزب الأموي مهما کلفه الأمر.









  1. المصدر: ج 2، ص 4، عن الطبري وابن الأثير.
  2. المصدر: ج 2، ص 11.