الثورة التي لم ترحم











الثورة التي لم ترحم



أنشبت بنو أمية، أظفارها في السلطة، وبدأت تنهب أموال المسلمين نهباً، وتبني بها حزبها السياسي، وقوتها العسکرية. ولأنها کانت ذات نفوذ سياسي قبل الإسلام، ولها علاقات مع القوي السياسية والعسکرية في الجزيرة، وتجارب سياسية، ولأن سماحة الإسلام، وضعف بعض القيادات هيأت لهم فرصة النمو في الظل، فقد حافظوا علي أفکارهم وتقاليدهم وعلاقاتهم، بل وهيکلية قيادتهم طوال الفترة التي کانوا بعيدين فيها عن السلطة ظاهراً، بالرغم من تداخلهم فيها.. بل، إن أباسفيان، وهو قائدهم في الجاهلية وموجههم في الإسلام، يزور الخليفة الثالث، فيجد عنده حاشيته من بني أمية، فيسأل جليسه هل في الحضور غريب؟. وکان قد کُفَّ بصرهُ آنئذٍ، فلما أجابه بالنفي واطمأن أبدي ما يجول في خاطره فخاطب قومه: تلقَّفوها يا بني عبد الدار تلقف الصبيان للکرة. فَوَ الذي يحلف به أبوسفيان لا جنَّة ولا نار!.فقام إليه الإمام علي (ع) الذي کان حاضراً في طرف المجلس فنهره.. فقال أبوسفيان العتب ليس علي وإنما علي الذي غرَّني وقال لا غريب بين الحضور.. فتصوَّر هذا العذر السخيف من ذلک الشيخ الذي ما دخل الإيمان إلي قلبه.وعندما تصاعدت أمواج الثورة ضد تصرفات بني أمية، في عهد الخليفة الثالث، مرّ معاوية وکان يومذاک قائد قوات بني أمية واقعاً، ووالي الشام- في الظاهر-، مرّ بقوم من کبار المهاجرين، فيهم علي (ع) وطلحة والزبير فقال: إنکم تعلمون أن هذا الأمر کان الناس يتغالبون عليه، حتي بعث الله نبيَّه فتفاضلوا بالسابقة والقدمة والجهاد. فإن أخذوا بذلک فالأمر أمرهم والناس لهم تبع. وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلک، ورده الله إلي غيرهم. وإن الله علي البدل لقادر، وإني قد خلفت فيکم شيخاً فاستوصوا به خيراً وکاتفوه تکونوا أسعد منه بذلک.[1] وعرف الحاضرون مغزي کلامه، فلقد هددهم بأنه وحزبه سوف ينقلبون علي أصحاب النبي (ص) لولم ينتصروا لعثمان.. وهکذا يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: من هذا اليوم أنشب معاوية أظفاره في الخلافة لأنه غلب علي ظنه قتل عثمان ألا تري إلي قوله: وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلک ورده إلي غيرهم وهو علي البدل لقادر. وإنما يعني نفسه ولذا تربص بنصرة عثمان لما استنصره[2] لقد أتم الحزب الأموي استعداده للإنقلاب علي النظام الإسلامي، وإقامة نظام جاهلي جديد، يتخذ من الدين وسيلة جديدة للسيطرة. وثار الناس من کل مکان، ولا سيما من الکوفة والبصرة، ومصر.. ومشي من کل منها ألف مسلح إلي المدينة في محاولة للضغط علي الخليفة، وکان هوي أهل الکوفة في الزبير، بينما کان أهل البصرة يميلون إلي طلحة، أما أهل مصر فکانوا شيعة الإمام (ع). ولم يکن الإمام (ع) راضياً لفعال الخليفة،ولکنه حاول جهده تجنب الفتنة. وکم کان يسعي لإصلاح ما أفسده بنو أمية في الحکم، إلاّ ان الخرق کان قد اتَّسع علي راقعه. ولعل الحديث التالي يکفينا شاهداً علي موقف الإمام الإصلاحي، وکيف کان يجابَهُ بضغوط بني أمية الغالبين علي أمر الخليفة. ولعلهم کانوا ينتظرون أمراً آخر.

أو کانت قيادتهم المتمثلة في معاوية تخطط فعلاً لقتل الخليفة عسي أن يتخذوه شعاراً لحرکتهم نحو السلطة. الحديث يقول: إن الثوار کتبوا إلي عثمان يدعونه إلي التوبة، وأقسموا له بالله أنهم لايرجعون عنه أبداً، وغير تارکيه حتي يعطيهم ما يلزمهم من حق الله. وأحس عثمان أن القوم جادُّون في طلباتهم، فأرسل إلي علي (ع) فلما جاءه قال له: يا أباالحسن قد کان من الناس ما رأيت، وکان مني ما قد علمت، ولست آمَنَهُم علي قتلي، فارددهم عنّي، فإن لهم والله أن أعفيهم من کل ما يکرهون، وأن أعطيهم من نفسي ومن غيري ما يريدون وإن في ذلک سفک دمي. فقال له أميرالمؤمنين (ع): «إن الناس إلي عدلک أحوج منهم إلي قتلک، وإني لأري القوم لا يرضون إلاّ بالرضا. وقد کنت أعطيتهم في المرة الأولي عهد الله أن ترجع عن جميع ما نقموا، فرددتُهم عنک،ولم تفِ لهم بشي ء من ذلک، فلا تغرَّنني- هذه المرة- من شي ء فإني معطيهم عليک الحق». قال: نعم، فأعطهم والله الآن، فوالله لأَفِيَنَّ لهم بکل ما تريد. فخرج علي إلي الناس، وقال: «أيها الناس! إنکم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه، إن عثمان زعم أنه منصفکم من نفسه ومن غيره، وراجع عن کل ما تکرهون». فاقبلوا منه، ووکدوا عليه. فقال الناس: قد قبلنا، فاستوثق لنا منه، فإنا والله لانرضي بقول دون فعل. فقال لهم: ذلک لکم. وتمضي الرواية تحدثنا عن أن رسالة خرجت- بعد هذه المعاهدة- من بيت الخليفة الثالث إلي عُمَّاله وعليها خاتم الخليفة، يدعوهم فيها إلي نصرته، وقتل رؤساء المعارضين، وأنه أخذ يتأهب للقتال ويعدّ جيشاً عظيماً من رقيق الخمس.. مما أثار شکوک المعارضين، فعادوا إليه، وطالبوه بعزل الولاة فوراً، أو خلع نفسه فلم يفعل.ثم أنکر الرسالة وادَّعي أنها تزوير عليه.. ولعل أصابع بني أمية داخل البيت کانت قد زورت الرسالة وغيّمت سحب الشکوک، ووقعت الفتنة[3] وهکذا جرت الرياح في اتجاه العنف، وقتل عثمان، وغلب الثوار علي المدينة، ولخص الإمام علي (ع) الواقعة بعدئذ في کلمتين، حين قال عن مقتله:«لو أمرت به لکنت قاتلاً، أو نهيت عنه لکنت ناصراً». وأضاف: «وأنا جامع لکم أمره: استأثر فأساء الاثرة، وجزعتم فأسأتم الجزع، ولله حکم واقع في المستأثر والجازع».[4] .

ولعل حکم الله الواقع في المستأثر أن يکبوَ به فرس السلطة ويقتل علي فراشه،وحکمه في الجازع أن يکون کمن يجتني الثمرة في غير أوانها فلا يهنأ بها. وهکذا استطاع الحزب الأموي أن يستفيد من مقتل الخليفة أکثر من الثوار. حتي تبرَّأ من مقتل الخليفة مَن کان مِن أشد المحرِّضين عليه، فهذه أم المؤمنين عائشة کانت تهتف: اقتلوا نعثلاً فقد کفر. وهذا طلحة والزبير، کانا يواصلان التحريض عليه ويجرِّدان الجيوش ضدَّه. وهذا عمرو بن العاص يؤلِّب عليه حتي الرعاة. ولکنهم جميعاً انحازوا إلي صف المطالبين بدمه. ولو سمعوا نصيحة الإمام عليه السلام لکانت الخلافة تعود إلي مراسيها دون إراقة دماء، وإثارة الفتن.









  1. في رحاب أئمة أهل البيت: ج 1، ص 343.
  2. المصدر: ج 1، ص 343.
  3. سيرة الأئمة الاثني عشر: ج 1، ص 423-425 نقلاً عن الطبري: ص (112) المجلد الخامس.
  4. في رحاب أئمة أهل البيت: ص 348. ويقول ابن ابي الحديد في شرح النهج ج 1 ص 231: «سئل ابوسعيد الخدري: هل شهد مقتل عثمان احد من الصحابة؟ قال نعم: شهده ثمانماية».