اصحاب النبي يدافعون عن الإمام
فأول من تکلم به خالد بن سعيد بن العاص، ثم باقي المهاجرين، ثم من بعدهم الأنصار. وروي أنهم کانوا غُيَّباً عن وفاة رسول الله (ص) فقدِموا وقد تولي أبوبکر وهم يومئذ أعلام مسجد رسول الله (ص) فقام خالد بن سعيد بن العاص[2] وقال: إِتقِ الله يا أبابکر، فقد علمتَ أن رسول الله (ص) قال ونحن محتوشوه يوم قريظة حين فتح الله له وقد قَتَلَ عليٌّ يومئذ عدة من صناديد رجالهم، وأولي البأس والنجدة منهم: «يا معاشر المهاجرين والأنصار، إني موصيکم بوصية فاحفظوها ومودعکم أمراً فاحفظوه، ألاَ إن علي بن أبي طالب (ع) أميرکم بعدي، وخليفتي فيکم، بذلک أوصاني ربي، ألاَ وإنکم إن لم تحفظوا فيه وصيتي وتوازروه وتنصروه اختلفتم في أحکامکم، واضطرب عليکم أمرُ دينکم، وَ وَلِيَکُمْ شِرارُکم. ألاَ إن أهل بيتي هم الوارثون لأمري، والعالِمون بأمر أمتي من بعدي. اللهم مَن أطاعهم من أمتي، وحفظ فيهم وصيتي، فاحشرهم في زُمرتي، واجعل لهم نصيباً من مرافقتي، يدرکون به نور الآخرة. اللهم ومَن أساء خلافتي في أهل بيتي فاحرمه الجنة التي عرضها کعرض السماء والأرض». فقال له عمر بن الخطاب:اسکت يا خالد فلست من اهل المشورة، ولا ممن يقتدي برأيه. فقال خالد: اسکت يا ابن الخطاب فإنک تنطق عن لسان غيرک. وأيم الله لقد علمتْ قريش أنک من أَلأَمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسّها قدراً، وأخملها ذِکْراً، وأقلهم غَناء عن الله ورسلوه. وأنک لَجبان في الحروب، بخيل بالمال، لئيم العنصر، مالک في قريش من فخر، ولا في الحروب من ذِکْر، وإنک في هذا الأمر بمنزلة الشيطان إذ قال للإنسان اکفر، فلما کفر قال إني بري ء منک، إني أخاف الله رب العالمين، فکان عاقبتهما أنهما في النار خالدَينِ فيها، وذلک جزاء الظالمين، فأبلس عمر،وجلس خالد بن سعيد. 2- ثم قام سلمان الفارسي[3] و قال: کرديد ونکرديد ( وندانيد جه کرديد (أي فعلتم ولم تفعلوا) وما علمتم ما فعلتم (وامتنع من البيعة قبل ذلک حتي وُجِي ءَ عنقه، فقال: يا أبابکر إلي من تسند أمرک إذا نزل مالا تعرفه، وإلي من تفزع إذا سئلت عما لا تعلمه، وما عذرک في تقدم من هو أعلم منک وأقرب إلي رسول الله (ص) وأعلم بتأويل کتاب الله عزَّوجلَّ وسنّة نبيه، ومَن قدَّمه النبي (ص) في حياته، وأوصاکم به عند وفاته، فنبذتم قوله، وتناسيتم وصيته، وأخلفتم الوعد، ونقضتم العهد، وحللتم العقد الذي کان عقده عليکم من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد حذراً من مثل ما أتيتموه، وتنبيهاً للأمة علي عظيم ما اجترحتموه من مخالفة أمره، فعن قليل يصفو لک الأمر وقد أثقلک الوزر ونقلت إلي قبرک، وحملت معک ما اکتسبت يداک، فلو راجعت الحق من قُرب وتلافيت نفسک، وتبت إلي الله من عظيم ما اجترمت، کان ذلک أقرب إلي نجاتک يوم تفرد في حفرتک ويسلمک ذوو نصرتک، فقد سمعت کما سمعنا، ورأيت کما رأينا، فلم يردعک ذلک عما أنت متشبث به من هذا الأمر الذي لا عذر لک في تقلُّده ولا حظَّ للدين والمسلمين في قيامک به، فالله الله في نفسک، فقد أعذر من أنذر، ولا تکن کمن أدبر واستکبر. 3- ثم قام أبوذر فقال: يا معاشر قريش أصبتم قباحةً وترکتم قرابة، والله لترتدنَّ جماعة من العرب[4] . ولتشکن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيکم ما اختلف عليکم سيفان. والله لقد صارت لمن غلب ولتطمحنَّ إليها عين من ليس من أهلها، وليسفکن في طلبها دماء کثيرة، فکان کما قال أبوذر رضوان الله عليه. ثم قال لقد علمتم وعلم خيارکم أن رسول الله (ص) قال: «الأمر بعدي لعليِّ ثم، لإبنَيَّ الحسن والحسين، ثم للطاهرين من ذُرِّيتي». فأطرحتم قول نبيکم وتناسيتم ما عهد به إليکم، فأطعتم الدنيا الفانية، وبعتم الآخرة الباقية التي لايهرم شبابها، ولا يزول نعيمها، ولا يحزن أهلها، ولا يموت سکانها، بالحقير التافه الفاني الزائل، وکذلک الأمم من قبلکم کفرت بعد أنبيائها، ونکصت علي أعقابها، وغيرت وبدّلت، واختلفت، فساوَيْتُموهم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة وعما قليل تذوقون وبال أمرکم، وتجزون بما قدمت أيديکم، وما الله بظلام للعبيد. 4- ثم قام المقداد بن الأسود وقال: ارجع يا أبابکر عن ظلمک، وتب إلي ربک، والزم بيتک، وابکِ علي خطيئتک، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولي به منک، فقد علمت ما عقده رسول الله (ص) في عنقک من بيعته، وألْزَمک من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد وهو مولاه، ونبّه علي بطلان وجوب هذا الأمر لک ولمن عضدک عليه بضمه لکما إلي علَم النفاق ومعدن الشنآن والشقاق عمرو بن العاص الذي أنزل الله تعالي فيه علي نبيه (ص): (إِنَّ شَانِئَکَ هُوَ الاَبْتَرُ) (الکَوثَر: 3) فلا اختلاف بين أهل العلم أنها نزلت في عمرو- وهو کان أميراً عليکما وعلي سائر المنافقين في الوقت الذي انفذه رسول الله (ص) في غزاة ذات السلاسل[5] وإن عمراً قلدکما حرس عسکره فمن الحرس إلي الخلافة؟ إتّقِ الله وبادر الاستقالة قبل فوتها، فإن ذلک اسلم في حياتک وبعد وفاتک، ولا ترکن إلي دنياک، ولا تغررک قريش وغيرها، فعن قليل تضمحل عنک دنياک، ثم تصير إلي ربک فيجزيک بعملک. وقد علمت وتيقَّنت أن عليَّ بن أبي طالب (ع) صاحب هذا الأمر بعد رسول الله (ص) فسلِّمه إليه بما جعله الله له فإنه أتم لسترک وأخفُّ لوزرک، فقد والله نصحت لک إن قبلت نُصحي، وإلي الله ترجع الأمور. 5- ثم قام بريدة الأسلمي[6] فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا لقي الحق من الباطل يا أبابکر؟ أنسيت أم تناسيت أم خدعتک نفسک وسوّلت لک الأباطيل؟ أولم تذکر ما أمرنا به رسول الله (ص) من تسمية علي (ع) بإمره المؤمنين، والنبي بين أظهرنا، وقوله في عدة أوقات: هذا أميرالمؤمنين، وقاتل القاسطين؟ فاتَّقِ الله وتَدارکْ نفسک قبل أن لا تُدرکها وأنقذها مما يهلکها، واردد الأمر إلي من هو أحق به منک، ولا تتمادَ في اغتصابه. وراجع وأنت تستطيع أن تراجع، فقد محصتُک النصح، ودللتک علي طريق النجاة، فلا تکونن ظهيراً للمجرمين. 6- ثم قام عمار بن ياسر فقال: يا معاشر قريش يا معاشر المسلمين، إن کنتم علمتم وإلاّ فاعلموا أن أهل بيت نبيکم أولي به وأحق بارثه، وأقْوَمُ بأمور الدين وآمن علي المؤمنين، وأحفظ لملته، وأنصح لأمته، فمروا صاحبکم فليرددَّ الحق إلي أهله قبل أن يضطرب حبلکم، ويضعف أمرکم، ويظفر عدوکم، ويظهر شتاتکم وتعظم الفتنة بکم، وتختلفون فيما بينکم، ويطمع فيکم عدوکم، فقد علمتم أن بني هاشم أولي بهذا الأمر منکم، وعلي من بينهم وليکم بعهد الله وبعهد رسوله، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عندما سدَّ النبي (ص) أبوابکم التي کانت إلي المسجد فسدها کلها غير بابه[7] وإيثاره إياه بکريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منکم، وقوله (ص): «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد الحکمة فليأتها من بابها». وأنتم جميعاً مصطرخون فيما أشکل عليکم من أمور دينکم إليه، وهو مستغنٍ عن کل أحد منکم، إلي ما له من السوابق التي ليست لأفضلکم عند نفسه، فما بالکم تحيدون عنه، وتغيرون علي حقه، وتؤثرون الحياة الدنيا علي الآخرة، بئس للظالمين بدلاً. أعطوه ما جعله الله له: (وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَي أَدْبَارِکُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 21). 7- ثم قام أبي بن کعب[8] فقال: يا أبابکر لا تجحد حقّاً جعله الله لغيرک، ولا تکن أول من عصي رسول الله (ص) في وصيّه وصفيّه، وصدف عن أمره. أردد الحق إلي أهله تسلم، ولا تتماد في غيک فتندم، وبادر الإنابة يخفّ وزرک ولا تخصص بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لک نفساً، فتلقي وبال عملک، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلي ربک، فيسألک عما جنيت (وَمَا رَبُّکَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (فصّلت: 46). 8- ثم قام خزيمة بن ثابت فقال: أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله (ص) قبل شهادتي وحدي، ولم يُرد معي غيري؟. قالوا بلي قال: فأَشهد أني سمعت رسول الله (ص) يقول: «أهل بيتي يُفَرِّقون بين الحق والباطل، وهم الأئمة الذين يُقتدي بهم». وقد قلت ما علمت، وما علي الرسول إلاّ البلاغ المبين. 9- ثم قام أبوالهيثم بن التيهان فقال: وأنا أشهد علي نبيِّنا (ص) أنه أقام عليّاً (ع)- يعني في يوم غدير خم-. فقالت الأنصار ما أقامه إلاّ للخلافة. وقال بعضهم ما أقامه إلاّ ليعلم الناس أنه مولي من کان رسول الله (ص) مولاه.وأکثروا الخوض في ذلک، فبعثنا رجالاً منَّا إلي رسول الله (ص) فسألوه عن ذلک،فقال: قولوا لهم: «علي (ع) ولي المؤمنين بعدي، وأنصح الناس لأمتي، وقد شهدت بما حضرني. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليکفر، إن يوم الفصل کان ميقاتاً». 10- ثم قام سهل بن حنيف فحمد الله وأثني عليه، وصلي علي النبيِّ محمد (ص) ثم قال: يا معاشر قريش اشهدوا علي أني أشهد علي رسول الله (ص) وقد رأيته في هذا المکان يعني الروضة، وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (ع) وهو يقول: «أيها الناس هذا علي إمامکم من بعدي، ووصيي في حياتي وبعد وفاتي، وقاضي ديني، ومنجز وعدي، وأول من يصافحني علي الحوض، فطوبي لمن تبعه ونصره، والويل لمن تخلَّف عنه وخذله». 11- وقام معه أخوه عثمان بن حنيف فقال: سمعنا رسول الله (ص) يقول: «أهل بيتي نجوم الأرض، فلا تتقدموهم وقَدِّموهم، فهم الولاة بعدي». فقام إليه رجل فقال: «يا رسول الله وأي أهل بيتک؟ فقال (ص): «علي والطاهرون من وُلْده». وقد بيَّن (ص) فلا تکن يا أبابکر أول کافر به ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتکم وأنتم تعلمون. 12- ثم قام أبوأيوب الأنصاري فقال: اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيکم، ورُدُّوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبيِّنا (ص) ومجلس بعد مجلس يقول: أهل بيتي أئمتکم بعدي، ويُومئ إلي علي (ع) ويقول: هذا أمير البررة، وقاتل الکفرة، مخذول مَن خذله، منصور مَن نصره. فتوبوا إلي الله من ظُلمکم، إن الله تَوَّاب رحيم، ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين. قال الصادق (ع): فَأُفْحِمَ أبوبکر علي المنبر حتي لم يُحْرِ جواباً ثم قال: (وَلِيْتُکم ولستُ بخيرکم، أقيلوني، أقيلوني)[9] فقال عمر بن الخطاب: أنزل عنها يا لکع. کيف قَيَّم الإمام (ع) الشيخين: أمّا کيف عاش الإمام في عهد الشيخين؟ وکيف قيَّم هذا العهد؟. فلقد عاش صابراً يسعي لإصلاح الوضع ما استطاع إلي ذلک سبيلاً، ثم أخذ يربِّي جيلاً من الرساليين، ويشکل قوة ضغط ضد الإنحرافات الإِجتماعية، وضد جناح بني أمية الذين کانوا يسعون للتسلل إلي أجهزة الحکم. ويصف الإمام هذا العهد وصفاً دقيقاً في خطبته المعروفة بالشقشقية. ونستغني نحن بدورنا، عن المزيد من التفاصيل بشرح فقرات هذه الخطبة التي أوجزت في کلماته ما يمکن أن تتسع لها موسوعة تاريخية. يذکر الإمام في هذه الخطبة التي انحدرت عنه کالشقشقة تنحدر من الإبل، ويذکر أن أبابکر لبس الخلافة کالقميص في الوقت الذي کان يعلم أني أحق بها، حيث إني کقطب رحي الخلافة ومثل القمة التي ينحدر عنها السيل، ولا يبلغها الطير لشموخ محلِّها. أما إني قد أرخيت عليها ستارا، لأن بدأت أفکر بين أمرين: هل أقدم ولا يدّ لي، أم احجم وأصبر علي ظلام أعمي يطول حتي يجعل الکبير هرماً، والصغير أشيب، والمؤمن کادحاً حتي يلقي ربه؟ وقد قال بالنص:[10] «اما والله لقد تقمصها[11] فلان (ابن أبي قحافة) وإنه ليعلم أن محلِّي منها محلُّ القُطب من الرحي، ينحدر عني السيل، ولا يرقي إليّ الطير، فسدلتُ دونها ثوباً،[12] وطويت عنها کشحاً، وطفقت أرتئي بين أصول بيد جذّاء،[13] أو اصبر علي طخية عمياء،[14] يهرم فيها الکبير، ويشيب فيها الصغير، ويکن فيها مؤمن حتي يلقي ربَّه». ثم يبيِّن الإمام (ع) أنه رأي الصبر أقرب إلي الرشد والعقل، فصبر صبر من أصاب عينه قذيً أو اعترضت حلقه عَظْمَةٌ لأنه يري ما أورثه النبي (ص) من الخلافة ينتهب منه نهباً، وظل علي هذه الحال، حتي مضي الخليفة الأول لسبيله (وتوفاه الله) فأوصي بالخلافة (للخليفة) الثاني.ويتساءل الإمام (ع): کيف کان أبوبکر يستقيل من الخلافة في حياته ثم يتشبث بها حتي بعد مماته، إذ کانت معاهدة بينهما أن يقتسماها معاً، ويقول بالنص: «فرأيت أن الصبر علي هاتا أحجي، فصبرت، وفي العين قذي، وفي الحلق شجا[15] أري تراثي نهباً[16] حتي إذا مضي الأول لسبيله، فأدلي بها إلي فلان بعده». ثم تمثل بقول الأعشي: شتان ما يومي علي کورها[17] . فيا عجباً!. بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لَشدَّ ما تشطَّر ضرعيها»[18] . ثم يصف شخصية الخليفة الثاني، فيقول: لقد وضع الأول الخلافة في محل خشن إذا جرح أحدث جرحاً غليظاً، وإذا اقتربت منه يصعب عليک مسّه، و (بذلک) تکثر عنده الکبوات والاعتذار منها، وقد أصبحت السلطة کالإبل الصعبة، إذا أوقفها صاحبها أضرَّ بها حيث يخرم أذنها. وإذا ترکها اقتحمت المهالک، وهکذا أضحت السلطة، لا تنفع الشدة فيها لأنها تضر بالناس، ولا يصح الإهمال لأنه يفسدها. ويبدو أن الإمام (ع) يشير بذلک إلي أن حزمه ولينه لم يکونا بقدر مناسب ولا کانا في الموقع المناسب، بل کان شديداً في مقام يتناسب اللين. وليناً عندما يستوجب الشدة. ثم يصف حال الناس الذين أصيبوا بخبط فلم يعرفوا الهدي عن الضلال، کما ابتلوا بحالة التمرد انتهي بهم إلي حالة النفاق، والسير علي غير هدي، ولکن مع طول المدة وشدة المحنة آثرت الصبر. ويقول الإمام (ع): «فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظُ کلْمها[19] ويخشنَ مسُّها ويکثر العِثار[20] فيها والإعتذار منها، فصاحبها کراکب الصعبة،[21] إن أشنق[22] لها خرَمَ[23] وإن أسلس[24] لها تقحَّم[25] فَمُني الناس-[26] لَعَمْرُو الله- بخَبْطٍ[27] وشِماس[28] وتَلَوُّنٍ واعتراض[29] فصبرت علي طول المدة وشدة المحنة». ثم يصف الشوري التي أمر بها الخليفة الثاني حيث جعلها في ستة.. من کان يشک في أنه أفضل من الأول!، فکيف يوضع عند أمثال الأقران المتشابهين مع بعضهم وليس معه. وقد قَبِلَ الإمام (ع) لِمَا رآه من مصلحة الدين بالوضع، کأنه واحد من سرب الطيور، إذا هبطوا هبط معهم،وإن حلقوا طار معهم. يقول الإمام (ع): «حتي إذا مضي لسبيله، جعلها في جماعة زعم أني أحدهم، فيالله ولِلشُّوري، متي أعرض الريب فيَّ مع الأول منهم، حتي صرت أقرن إلي هذه النظائر،[30] لکنني أسففت[31] إذ أسَفُّوا، وطرت إذ طاروا». ويمضي الإمام (ع) في حديثه يصف عهد الخليفة الثالث ومن بعده مما نتحدث عنه تباعاً.
ولکن.. کيف دافع أصحاب النبي عن حق الإمام في الخلافة؟. الکتب التاريخية حفظت لنا عشرات الحوادث في ذلک. بيد أن القصة التالية تبدو جامعة حيث احتج کبار الأصحاب علي تغيير السلطة بأدلة قوية. کما أنها تروي أيضاً جانباً هامّاً من تاريخ الإمام علي (ع).. والإمام الصادق يروي تفاصيل هذه الحادثة التاريخية في حديث مفصل نُثبته هنا ليعکس لنا حالة الأمة آنذاک. وحيث اجتمع فريق من أصحاب رسول الله، فيهم سلمان الفارسي، وأبوذر، والمقداد بن الاسود، وبريرة الأسلمي، وعمار بن ياسر، وآخرون إلي الإمام (ع) فقالوا: يا أميرالمؤمنين ترکتَ حقّاً أنت أحق به وأولي منه، لأنا سمعنا رسول الله (ص) يقول: «عليٌّ مع الحق، والحق مع علي، يميل مع الحق کيف مال». ولقد هممنا أن نصير إليه فننزله عن منبر رسول الله (ص) فجئناک نستشيرک ونستطلع رأيک فيما تأمرنا. فقال أميرالمؤمنين (ع): «وأيم الله لو فعلتم ذلک لَمَا کنتم لهم إلاّ حرباً، ولکنکم کالملح في الزاد، وکالکحل في العين، وأيم الله لو فعلتم ذلک لأتيتموني شاهرين أسيافکم مستعدين للحرب والقتال، إذاً لأتوني فقالوا لي بايع، وإلاّ قتلناک، فلابدّ من أن أدفع القوم عن نفسي. وذلک أن رسول الله (ص) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي:يا أباالحسن إن الأمة ستغدر بک بعدي، وتنقض فيک عهدي. وإنک مني بمنزلة هارون من موسي، وإن الأمة من بعدي بمنزلة هارون ومن اتَّبعه، والسامري ومن اتَّبعه». فقلت يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا کان ذلک؟. فقال: «إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً کُفَّ يدَک واحقنْ دمَک حتي تلحق بي مظلوماً». ولما توفي رسول الله (ص) اشتغلتُ بغسله وتکفينه والفراغ من شأنه،ثم آليتُ يميناً أن لا أرتدي إلاّ للصلاة حتي أجمع القرآن، ففعلت. ثم أخذت بيد فاطمة وابْنَيَّ الحسن والحسين فدرت علي أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلي نُصرتي، فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط منهم سلمان وعمار والمقداد وأبوذر[1] ولقد راودت في ذلک تقييد بيّنتي، فاتقوا الله علي السکوت لِمَا علمتم من وَغْر صدور القوم، وبُغضهم لله ولرسوله ولأهل بيت نبيه (ص). فانطلقوا بأجمعکم إلي الرجل فعرِّفوه ما سمعتم من قول رسولکم (ص) ليکون ذلک أوکد للحجة، وأبلغ للعذر، وأبعد لهم من رسول الله (ص) إذا وردوا عليه. فسار القوم حتي أحدقوا بمنبر رسول الله (ص) وکان يوم الجمعة، فلما صعد أبوبکر المنبر قال المهاجرون للأنصار تقدموا فتکلّموا، وقال الأنصار للمهاجرين: بل تکلموا أنتم، فإن الله عزَّوجلَّ أدناکم في کتابه إذ قال الله: (لَقَد تَابَ الله عَلَي النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاَنْصَارِ) (التوبة: 117) قال ابان: فقلت له: يابن رسول الله، إن العامَّة لاتقرأ کما عندک، فقال: وکيف تقرأ يا ابان؟ قال: إنها تقرأ. (لَقَد تَابَ الله عَلَي النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاَنْصَارِ) (التوبة: 117) فقال: «ويلهم وأي ذنب کان لرسول الله (ص) حتي تاب الله عليه منه، إنما تاب الله به علي أمته».
و يوم حيَّان أخي جابر