كيف طالب الإمام بحقه











کيف طالب الإمام بحقه



ولم يشأ الإمام علي (ع) أن يحمل السيف، ويأخذ حقه بقوة السلاح لأمرين- کما يبدو للباحث في تاريخه- وهما: أولاً: لأنه لم يجد تجاوباً کافياً لدي المؤيدين له، مما کان يجعل مطالبته نوعا من المغامرة. ثانيا: خشيته علي الإسلام أن يرتد عنه أولئک الذين لَمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم. ولقد أشار (ع) إلي هذين الأمرين في أکثر من مناسبة، نذکر منها قوله- في حديث مفصل يأتي إن شاء الله-: فقلت يا رسول الله فما تعهد إليَّ إذا کان (ذلک)؟ فقال: «إن وجدت أعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً کُفَّ يدَک، واحقن دمک حتي تلحق بي مظلوماً»[1] .

وقال- وهو يوضح موقفه من السلطة عموماً بعد بيعة عثمان-: «لقد علمتم: أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأَسَلّمَنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين ولم يکن فيها جور إلاّ عَلَيَّ خاصة، التماساً لأجر ذلک وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»[2] .

ولقد طالب الإمام (ع) بحقه ومشي إلي المهاجرين والأنصار، وحرّضهم علي الدفاع عنه. وأنهض کبار شيعته وأهل بيته لإعلان حقه، مما جعل الناس يعرفون بخطأ مبادرتهم للبيعة!. بل جعل الخليفة الثاني يقول: إن بيعة أبي بکر کانت فلتة وقَي الله المسلمين شرَّها، فمن عاد إليها فاضربوا عنقه. إن البعض يحاول أن يوهمنا أن انتقال السلطة إلي الخليفة الأول تَمَّ بهدوء، من أجل أن يضفي علي عهده صبغة القداسة والعصمة عن الخطأ. ولعل منشأ هذا الرأي الحمية للإسلام، بما يخالف واقعيات التاريخ. والواقع أن خلط الدين بالتراث، ومحاولة تقديس الماضي بإيجابياته وسلبياته هو المسؤول عن مثل هذه النظرة الساذجة. إن عشرات النصوص الدينية والتاريخية، التي لايرقي إليها أدني شک، تؤکد أن مَن کان حول الرسول لم يکونوا إلاّ بشراً، فيهم الصالحون، وفيهم الکثير من المنافقين والفاسقين، وکان فيهم من قال عنه الإمام (ع): «لقد رأيت أصحاب محمد (ص) فما أري أحداً يشبههم منکم!. لقد کانوا يصبحون شعثاً غبراً، وقد باتوا سُجَّداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون علي مثل الجمر من ذکر معادهم»[3] .

کما کان فيهم من عشق السلطة، وسعي إليها علي تلال من جثث القتلي دون أي وازع من دين أو ضمير، وکان فيهم مَنْ أکثَر من الکذب حتي حذَّر الرسول (ص) من ذلک قائلا: «ستکثر من بعدي القالة، فمن کذَب عَلَيَّ فليتبوَّأ مقعده من النار». وکان فيهم من قال عنه الله سبحانه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِکُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاکِرِينَ) (آل عمران: 144) وقال عز من قائل أيضاً: ( وَمِمَّنْ حَوْلَکُم مِنَ الاَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَي عَذَابٍ عَظِيمٍ) (التوبة: 101) وقال تعالي: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْکُمْ کَثْرَتُکُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْکُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْکُمُ الاَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدْبِرِينَ) (التوبة: 25) وقال سبحانه: (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَء َامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْکُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْکَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذلِکَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).

وقد نقل المحدِّثون جميعاً عن الرسول (ص) کثيراً من النصوص التي تؤکد أن بعض أصحابه ينحرفون من بعده.. إذن کيف يمکن تصور القداسة فيهم، وأنهم سلَّموا السُّلطة إلي أهلها من دون صراع، علماً بأن الروايات التاريخية الصحيحة شهدتْ بوجود هذا الصراع علي أشده، منذ يوم السقيفة ؛ ثم ولم يلبث أن اصطبغ الصراع بلون الدم في حادثة مالک بن نويرة، الذي أبي إعطاء الزکاة للخليفة الأول، فبعث إليه قائداً عربيّاً عريقاً في الجاهلية ممن انضمَّ إلي الرسالة بعد الفتح، وأضحي سيفاً مسلولاً بيد الدولة، وهو خالد بن الوليد، الذي فتک بمالک وانتهک عرضه وافتعل بزوجته ليلة قتلِه وجعله عبرة لکل القبائل التي ربما فکرت بالتمرد علي السلطة الجديدة.. ثم بارکت عملَه هذه السلطة الجديدة؟.. واستمرت سلسلة الصراعات حتي انتهت بالحروب الداخلية التي جرت في عهد الإمام أميرالمؤمنين (ع)، فلولا وجود خلفيات لهذه الصراعات لم تکن لتظهر بتلک الصورة الدموية. بيد أن الباحث يقتنع من خلال عشرات الشواهد التاريخية أن الإمام عليّاً (ع) لم يکن يرغب في تحويل الصراع إلي تنافس سياسي علي السلطة، ولا يرضي بتصعيده إلي حرب دامية، ولا حتي باعتزال الساحة السياسية، بل کان يشارک الخلفاء في کافة الشؤون، ويلي أمورهم ويحل معضلاتهم. و من جهة ثانية، کان الخلفاء يذعنون لفضل الإمام (ع)، ويعملون بنصائحه وقضائه ويشيدون به في أکثر من مناسبة.. فلقد شاع قول الخليفة الأول.. أقيلوني فلست بخيرکم وعليٌّ فيکم. وتواتر الحديث عن الخليفة الثاني: «لولا عليٌّ لَهلک عُمَر». حيث قالها في أکثر من مائة مناسبة. وقال أيضاً: «معضلة ليس لها أبوالحسن». وإنما قالها عمر لمزيد من المشاکل التي حلها الإمام (ع) وأراح منها المسلمين. وقد ثبت تاريخيّاً: أن أصحاب الإمام (ع) قد تولوا کثيراً من المناصب الإدارية والعسکرية للدولة، فسلمان تولي ولاية فارس في المدائن، وهو من أقرب أنصار الإمام (ع) وأشهدهم إخلاصاً له. والإمام الحسن المجتبي (ع) شارک في جيش الإسلام الذي فتح الله علي يديه بلاد الفرس، کما أن الإمام نفسه استخلفه الخليفة الثاني عند ذهابه إلي فلسطين. ونستوحي من حديث مأثور عن الإمام الصادق (ع) أن الحکم في عهد الخليفة الأول والثاني کان يشبه حکماً ائتلافيّاً بين الأجنحة المختلفة، بينما استبد جناح بني أمية بالحکم في عهد الخليفة الثالث، وخلص الحکم- بعد الإنتفاضة وقتل الخليفة- للجناح الأول الذي کان يقوده الإمام علي، وأولي البصائر من المهاجرين والأنصار: ولذلک ثارت ثائرة أصحاب عُثمان وتمرد الأمويون ومَن اتَّبعهم علي حکم الإمام علي (ع).









  1. موسوعة بحار الانوار: ج 28، ص 191.
  2. المصدر: ص 102.
  3. نهج البلاغة: ص 143.