الامام علي يواجه المحنة











الامام علي يواجه المحنة



أوصي النبيُّ (ص) الإمام (ع) بأنه سيعاني من أمته الکثير، وبأنهم لا يمتثلون أوامره فيه وفي سائر أهل بيته، فعليه أن يتسلح بالصبر. ثم الْتَحق النبيُّ (ص) بالرفيق الأعلي، وفاضت نفسه ورأسه الشريف علي صدر الإمام (ع). واشتغل الإمام بمراسم الغسل والتکفين والدفن، کما يقول (ع): «ولقد قبض رسول الله (ص)، وإن راسه لَعَلَي صدري، ولقد سالَتْ نفسُه في کفي، فأمررتهُا علي وجهي، ولقد وَليتُ غسله (ص) والملائکة أعواني، فضجَّت الدار والأوفينة، ملأٌ يهبط وملأٌ يعرج، وما فارقت سمعي هينمةٌ منهم، يصلُّون عليه حتي واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به مني حيّاً وميتاً»[1] .

إلاّ أن هناک مَن کان يفکر في کيفية الإنقلاب. ويبدو أن ثلاثة خطوط ارتسمت علي الخارطة السياسية بعد وفاة النبي (ص) مباشرة هي: أولا: خط الإمام علي (ع) ومعه جمهور الأنصار وثلة من المهاجرين. ثانياً: جناح سائر المهاجرين، وثلة من الأنصار خصوصاً من قبيلة الخزرج. ثالثاً: حزب الأمويين بقيادة أبي سفيان. وبالرغم من أن الخط الثالث، کان منبوذا، ولاتزال ذکريات بدر وأُحد حيةً في نفوس المسلمين، وبالتالي لم يکن لرموز هذا الخط الجرأة بأن تطرح نفسها کسلطة سياسية، إلاّ أن انتشار شبکتها في الجزيرة وتراکم التجربة القيادية لديها، وامتلاکها لکثير من الرجال الأشداء، والأموال الطائلة، کل ذلک کان يجعلها الغائب الشاهد في کل قرار سياسي للأمة، حيث کانت أکبر قوة ضاغطة من وراء الأحداث.. ويبدو للباحث في التاريخ أن أية قوة سياسية کانت تتحالف مع خط أبي سفيان، کان بامکانها أخذ أزِمَّة الأمور بيديها. وإن أباسفيان حاول في البدء التحالف مع الإمام علي (ع) فرفضه، فتحالف مع بعض عناصر الخط الثاني الذي کان يعتبر معتدلاً تجاهه، إذا قيس بتصلُّب الإمام علي (ع) ومدي شدته في ذات الله. فقد جاء في بعض النصوص التاريخية، أن أباسفيان مشي إلي الإمام (ع) بعد وفاة الرسول، فحثَّه علي المطالبة بحقه، ووَعَده بأن يملأها خيلاً ورجالاً. فأبي (ع) ذلک بقوة، والقي خطاباً هامّاً رغَّب الناس في الآخرة وزهَّدهم في الدنيا، جاء في أوله: «أيها الناس! شُقُّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة وضعوا تيجان المفاخرة. افلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح. هذا (الدنيا أو الملک) ماء آجن، ولقمة يغصُّ بها آکلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها، کالزارع بغير أرض، فإن أقل يقولوا حرص علي الملک، وإن أسکت يقولوا جزع من الموت»[2] .

وهکذا غلب الخط الثاني والذي اتَّفقت قياداته علي بيعة الخليفة الأول علي السلطة، وکانت قيادات الجيش متفقة مع هذا الخط في الأغلب. وباستطاعتنا أن نفسر سيطرة هذا الخط بأنه سيطرة للخط العسکري. فبالرغم من أن الإمام عليّاً کان أبرز القيادات العسکرية في ذلک اليوم، حيث حمل راية الإسلام في أکثر المعارک، إلاّ أن أغلب أنصاره کانوا من المحرومين والمستضعفين کالأنصار. وهکذا يمکننا أن نفسر تسيير النبي (ص) لجيش اسامة إلي خارج العاصمة- بل خارج الجزيرة العربية- وقد ضم إليه کبار الأصحاب فيما بينهم أنصار وقيادات الخط الثاني، إلاّ أنهم لم ينفِّذوا جيش أسامة، وتخلفوا عنه، سواء عن سابق إصرار ومعرفة بالهدف من بعثهم فيه، أو لاشفاقهم علي حالة الرسول کما زعموا.وقد قال الرسول (ص): «نفِّذوا جيش اسامة، لعن الله مَن تخلَّف عن جيش أسامة». وقد جاء تفاصيل ذلک في نص صريح مأثور عن الإمام أميرالمؤمنين (ع) جاء فيه: «ثم أمر رسول الله بتوجيهه الجيش الذي وجَّهه مع أسامة بن زيد عندما أحدث الله به المرض الذي توفاه فيه. فلم يَدع النبيُّ (ص) أحداً من أبناء العرب ولا من الأوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف علي نقضه ومنازعته، ولا أحداً ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجَّهه في ذلک الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، لتصفو قلوب من يبقي معي بحضرته، ولئلا يقول قائل شيئا مما أکرهه، ولا يدفعني دافع عن الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده. ثم کان آخر ما تکلم به في شي ء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة ولا يتخلف عنه أحد ممن أنهض معه، وتقدم في ذلک أشد التقدم، وأوعز فيه أبلغ الإيعاز، وأکد فيه أکثر التأکيد. فلم أشعر بعد أن قبض النبي (ص) إلا برجالٍ من بَعْثِ أسامة بن زيد وأهل عسکره قد ترکوا مراکزهم، وأخلّوا بمواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله (ص) فيما أنهضهم له وأمرهم به، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم، والسير معه تحت لوائه حتي ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه، فخلفوا أميرهم مقيماً في عسکره، وأقبلوا يتبادرون علي الخيل رکضاً إلي حل عقدة عقدها الله عزَّوجلَّ ورسوله لي في أعناقهم، فحلّوها، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنکثوه، وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجَّت به أصواتهم، واختصت به آراؤهم، من غير مناظرة لأحد من بني عبدالمطلب، أو مشارکة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي. فعلوا ذلک، وأنا برسول الله مشغول، وبتجهيزه عن سائر الأشياء مصدود، فإنه کان أهمها وأحق ما بدئ به منها، فکان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد علي قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية، وفاجع المصيبة، وفَقْدِ من لا خلف منه إلاّ الله تبارک وتعالي، فصبرت عليها إذ أتت بعد أختها علي تقاربُها، وسرعة اتَّصالها. ثم التفت (ع) إلي أصحابه فقال: أليس کذلک؟. قالوا: بلي يا أميرالمؤمنين عليک السلام.[3] .









  1. نهج البلاغة-شرح د. صبحي الصالح: ص 311.
  2. نهج البلاغة الخطبة (5).
  3. موسوعة بحارالأنوار: ج 28، ص 207.