الغارة التي خلدها الكتاب











الغارة التي خلدها الکتاب



أذعنت الجزيرة العربية لحکم الله، بعد فتح مکة ومعرکة حنين، إلاّ أن الأعراب الذين کان دأبهم الغزو، تجمَّعوا في منطقة قريبة من المدينة وأرادوا الإغارة عليها علي حين غفلة من أهلها. فلما انتهي خبرهم إلي الرسول، ندب لهم أبابکر ثم عمراً ثم عمرو بن العاص، ولکنهم کانوا يؤثرون الإنسحاب بسبب تحصن الأعراب بواد هناک يسمي وادي الرمل، کان صعب المسالک کثير الأحجار، وکان موقع المدافعين الحصين سبباً لکثرة إصابات المسلمين. وکعادة الرسول في الإستعانة بعلي (ع) عند الشدائد، أرسله وضم إليه القيادات السابقة، فمضي إليهم الإمام يکمن بالنهار ويسير بالليل، فلما اقترب منهم وحاصر مواقعهم في الليل، انقض عليهم أول الفجر، وأمعن فيهم قتلاً وأسراً حتي استسلموا. وذات صباح صلَّي الرسول بالمسلمين صلاة الغداة وقرأ عليهم فيها سورة لم يسمعوها من قبل: ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (العاديات: 5-1) فلما سألوه عنها قال: «إن عليّاً ظفر بأعداء الله، وبشرني جبرائيل في هذه الليلة»[1] .

وحين عاد الإمام (ع) استقبله النبيّ (ص) والمسلمون معه، فترجَّل الإمام عن فرسه احتراماً للرسول فقال له النبي ارکب فإن الله ورسوله عنک راضيان. وأضاف:«لولا أني أشفق أن تقول فيک طوائف من أمتي ما قالت النصاري في المسيح، لقلت فيک مقالة لا تمر علي ملأ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدمَيک»[2] .

وهکذا کان الإمام (ع) سيف الإسلام الذي لا ينبو، يوجهه الرسول (ص) حيث يُحدق الخطر بالرسالة، وقد بعثه مرتين إلي اليمن- حسب الأخبار- حيث أسلمت علي يَديه قبائلها، وبالذات قبائل همدان. بيعة غدير خم: وفي السنة العاشرة بعد الهجرة- حين عزم النبي (ص) علي المسير إلي مکة وأداء الحج الأخير الذي سمي «بحجة الوداع»- کان الإمام (ع) في اليمن أو نجران. فکتب إليه الرسول (ص) بأن يوافيه مکة حاجّاً، وقد أُوحي إلي النبي (ص) أنه راحل عن أمته. فلما قفلوا عن مکة راجعين، أوقف الرسول الرکب بمنطقة تسمي «بغدير خم» حيث نزلت عليه الآية الکريمة: (يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْکَ مِن رَبِّکَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُکَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67). فقام في الناس خطيباً وقال في مستهل حديثه: «أيها الناس يوشک أن أُدعي فَأُجيب». وأضاف: «إني تارک فيکم الثقلَين: کتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فانظروا کيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتي يَرِدا علَيَّ الحوض». ثم قال بعد أن أخذ بيد علي ورفعها: «ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قالوا: بلي يا رسول الله، فقال: «من کنت مولاه فعليٌّ مولاه. اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه». ثم أفرد النبي لعلي خيمة وأمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل ذلک کلهم حتي من کان معه من أزواجه ونساء المسلمين. فأنزل الله تعالي علي رسوله ما يعتبر إعلاناً عن خاتمة الوحي: (الْيَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِينَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْکُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَکُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3).

وانتشرت في الآفاق أنباء استخلاف النبي لوصيه الإمام علي!. ولکن النبي (ص) الذي کان أخبر قائدٍ بالناس من حوله، کان يعلم أن الکثير من التمهيد يحتاج إليه المسلمون، خصوصاً وقد تکاثر عدد الوصوليين بينهم بعد فتح مکة، وإن الکثيرين منهم يطالبون عليّاً بأوتار الجاهلية، فلا يقبلون بولاية الإمام (ع)بسهولة. کما أحيط علماً بالمؤامرات التي کانت تجري في البلاد للسيطرة علي الحکم من بعده، وکانت «قريش» التي دخلت- الآن- في الإسلام تتخذ منه أداة جديدة لسلطتهم علي الجزيرة العربية، کانت مرکز هذه المؤامرة. ومن هنا لم يدع الرسول (ص) مناسبة إلاّ وأعلن فيها عن أن وصيه الذي اختاره الله للولاية من بعده إنما هو الإمام علي (ع)، لتبقي الأقلية المؤمنة وفية بعدها مع الله والرسول، وملتفّة حول قيادة الإمام (ع) وتحافظ علي الخط السليم للامة، وتکون ميزاناً للحق والباطل، ومقياساً سليماً لمتغيرات الحوادث.من هنا نجد النبي (ص) يسعي حتي آخر لحظة من حياته في هذا السبيل، فقد جاء في رواية البخاري- من کتاب المرض والطب- أنه اجتمع عند رسول الله رجال فيهم: عمر بن الخطاب، فقال لهم النبي (ص) هلموا أکتب لکم کتاباً لاتضلوا بعده أبداً. فقال عمر بن الخطاب: «إن النبي غلبه الوجع، وعندنا القرآن، حسبنا کتاب الله» فاختلف الحاضرون واختصموا فأمرهم النبي بالإنصراف[3] .

وفي بعض روايات البخاري قال بعضهم ما شأنه أهجَرَ؟! استفهموه فذهبوا يرددون عليه فقال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث: إخراج المشرکين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفود بمثل ما کان يجيزهم، وسکت الراوي عن الثالثة أو قال: إني نسيتها[4] .

وواضح أن المسلمين لم يکونوا لينسوا وصية نبيِّهم الأخيرة، إلاّ أنها کانت متعلقة بالوضع السياسي بعد النبي مما يستدعي تناسيه رغَباً أو رَهَباً. والواقع أن الخليفة الثاني بَرَّر ذات مرة اتِّهامه للنبي (بأنه قد غلبه الوجع) بأنه لم يکن يري مصلحة في استخلاف النبي للإمام علي.. فقد جاء في شرح ابن أبي الحديد: روي أحمد بن أبي طاهر صاحب کتاب تاريخ بغداد مسنداً عن ابن عباس قال: دخلت علي عمر في أول خلافته وقد أُلقي له صاع من تمر علي خصفة، فدعاني إلي الأکل فأکلت تمرة واحدة، وأقبل يأکل حتي أتي عليه، ثم شرب من جرٍّ کان عنده واستلقي علي مرفقة له وطفق يحمد الله يکرر ذلک، ثم قال: من أين جئت يا عبدالله؟ قلت: من المسجد. قال: کيف خلفت ابن عمک- فظننته يعني عبدالله بن جعفر- قلت: خلفته يلعب مع أتراب له. قال: لم أعْن ذلک، إنما عنيت عظيمکم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالْقُرَب علي نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن. قال: يا عبدالله عَلَيَّ دماء البدن إنْ کتمتنيها، هل بقي في نفسه شي ء من أمر الخلافة؟. قلت: نعم. قال: أيزعم أن رسول الله نص عليه؟. قلت: نعم، وأزيدک أني سألت أبي عمَّا يدَّعيه فقال: صدق. فقال عمر: لقد کان من رسول الله في أمره ذروٌ من قولٍ لا يُثبت به حجة ولا يقطع عذراً، ولقد کان يرجع في أمره وقتاً ما، ولقد اراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعتُ من ذلک إشفاقاً وحيطة علي الإسلام. لا ورب هذه البنيَّة لاتجتمع عليه قريش أبداً، ولو وَلِيهَا لانتقضتْ عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول الله أني علمت ما في نفسه فأمسک وأبي الله إلاّ إمضاء ما حتم[5] .









  1. المصدر: ص 263-264 نقلاً عن مجمع البيان عن الإمام الصادق (ع).
  2. المصدر: ص 262.
  3. المصدر: ص 276.
  4. المصدر: ص 277.
  5. راجع کتاب «قضاء أميرالمؤمنين»: ص 320.