محمود البستاني











محمود البستاني



أدب الإمام عليّ عليه السلام

يمکن الذهاب إلي أنّ أجود نتاج أدبي عرفه التاريخ- فناً، وعمقاً، وفکراً- يتمثل في ما کتبه الإمام علي عليه السلام. نسوق هذه الحقيقة وأمامنا وثيقتان تشهدان بذلک أولاهما: نفس النتاج المأثور عنه عليه السلام، والأُخري: وثيقة صادرة عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم تؤکّد هذه الحقيقة. وإذا کان مؤرّخ الأدب يمکنه من خلال المتابعة الجاهدة لنتاج الإمام علي عليه السلام أن يستخلص هذه الحقيقة، فإنّ الملاحظ أو القارئ يمکنه أن يستخلص ذلک من الوثيقة التي قدّمها النبي صلي الله عليه و آله و سلم في هذا الميدان، الوثيقة تقول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها». هذا النص التقويمي هو- إذ أخضعناه للغة الفن-«استعارة» ولکننا نعرف- کما ألمحنا إلي ذلک- أنّ الفارق بين الأدب التشريعي (القرآن الکريم، السنّة النبوية) والأدب العادي، أنّ الأدب التشريعي حينما يلجأ إلي عنصر (الصورة: تشبيه، استعارة... الخ) يختلف عن الأدب العادي في أنّ التشبيه أو الاستعارة ترتکز إلي واقع وليس إلي تخيّل، أو وَهم، أو مبالغة، فعندما يقرر القرآن الکريم: أنّ المنفِق في سبيل اللَّه مثل حَبّة أنبتت سبع سنابل في کل سنبلة مائة حبّة، حينئذٍ لا مبالغة في الصورة؛ نظراً لکون اللَّه تعالي مُنزَّهاً عن تقرير غير الحق، کذلک ما يقرره النبي صلي الله عليه و آله و سلم- وهو معصوم من الخطأ-لا يبالغ في تقريره لحقيقة ما. فعندما يقول صلي الله عليه و آله و سلم: «من عَدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت». فإنّه لم يبالغ في ذلک ما دام المرء يتعيّن عليه أن يحيا فکرة الموت وأن يعدّ له الزاد الذي يتناسب مع هذه الحقيقة، وحينئذٍ فإنّ إحياء فکرة الموت هي: صحبة بالفعل، فإذا لم يعدّ الغد من أجله فقد أساء هذه الصحبة، وحينئذٍ لا مبالغة في هذه الاستعارة، بل هي الحقيقة ذاتها.

والآن حين نتجه إلي الاستعارة القائلة (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) نجد أنّ

[صفحه 494]

هذه الاستعارة تجسّد الحقيقة دون مبالغة أيضاً، ما دام کلام النبي صلي الله عليه و آله و سلم معصوماً من الباطل، وإذا کان من وظيفة مؤرّخ الأدب أن يضع النصوص التي يدرسها في نطاقها اتاريخي، حينئذٍ نجد أنّ الوثيقة النبوية القائلة: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» تشکّل خلفية «تاريخية» ينبغي أن نستند إلي محتوياتها عند دراستنا لأدب الإمام علي عليه السلام.

إنّ کونه صلي الله عليه و آله و سلم مدينة للعلم يعني: أنّ اللَّه تعالي «ألهمه المعرفة» التي لم يلهمها أحداً من البشر سواه حيث حصرها في مدينة تابعة له صلي الله عليه و آله و سلم، وأمّا کون علي هو باب المدينة يعني: أنّ المعرفة التي ألهمها اللَّه للنبي صلي الله عليه و آله و سلم لا يمکن أن يتعرف عليها أحد إلّا من خلال علي عليه السلام؛ لأنّه الباب الذي يُفضي إلي دخول المدينة وهذا- يعني أيضاً -: أنّ علياً عليه السلام هو الذي يتکفّل ببيان ما ألهمه اللَّه تعالي للنبي صلي الله عليه و آله و سلم: حيث أوصل النبي صلي الله عليه و آله و سلم هذه المعرفة إلي علي عليه السلام وجعله لساناً رسمياً يتکلّم نيابة عنه، مما يفسّر لنا واحداً من أهم الأسباب التي جعلت النتاج الذي قدّمه علي عليه السلام ينطوي علي طرح يجمله صلي الله عليه و آله و سلم ويفصّله عليه السلام، أو يسکت عنه صلي الله عليه و آله و سلم ويترکه لعلي عليه السلام بأن يضطلع بتقريره وتوصيله إلي الآخرين.

إذن: عندما نقول بأنّ أدب الإمام عليّ عليه السلام يجسّد أفضل نتاج عرفه تاريخ الأدب، حينئذٍ لا نبالغ في تقرير هذه الحقيقة التي ينبغي لمؤرخ الأدب أن يعيها کلّ الوعي؛ إذا کان مستهدفاً دراسة تاريخ الأدب بلغة موضوعية تفرضها عليه وظيفته العلمية. وفي ضوء هذه الحقيقة نتقدّم بعرض سريع لأدب الإمام عليّ عليه السلام بنحو يتناسب وحجم هذه الدراسة.

وإنّ أهمية النتاج الذي قدّمه الإمام علي عليه السلام تتمثل في المستويين: الفکري والفني. أما الفني فيکفي أن يُطلَق علي نتاجه- في المختارات التي انتخبها الشريف الرضي- اسم نهج البلاغة أي النموذج أو المعايير أو القواعد أو الطرائق التي تجسّد

[صفحه 495]

ماهو فني أو بلاغي من التعبير، وهذا يعني أنّ الإمام عليه السلام قدّم النموذج للفن وإن ما عداه من النتاج العام هو دونه أو تقليد له. وأما الفکري منه، فيکفي أن نعود إلي وثيقة النبي صلي الله عليه و آله و سلم لنعرف أنّه حصيلة ما أودعه صلي الله عليه و آله و سلم من المعرفة لدي الإمام عليه السلام، وهو أمر يمکن أن يلاحظه مؤرّخ الأدب حينما يجد أنّه حيال فکر متميّز يَسْتَبِقُ عصره ويتجاوزها إلي التخوم التي لا يزال بعضها مجهولاً حتي في حياتنا المعاصرة. لقد تحدث الإمام عليه السلام عن المعرفة بنمطيها: المعرفة الإنسانية والمعرفة البحتة، فتحدث عن نشأة الکون وظواهره المختلفة من سماء وأرض وکواکب وملائکة وبشر وحيوان... الخ، وسائر ما يرتبط بالمعرفة البحتة.

وتحدث عن النفس والتربية والاقتصاد والسياسة والتاريخ والاجتماع، وسائر ما يرتبط بالمعرفة الإنسانية. ومعلوم أنّ الحديث عن الظاهرة العلمية: إنسانية کانت أو بحتة يتم عادة بلغة تقريرية، إلّا أنّه عليه السلام کتبها بلغة فنية تتوسّل بالصوت والصورة وسائر الأدوات الجمالية في أرفع مستوياتها، مما جعل النتاج المأثور عنه عليه السلام مطبوعاً بسمتي المعرفة والفن، ومن ثَم جعل هذا النتاج مطبوعاً بما هو نموذجي متميّز بحيث يعکس آثاره علي النتاج الذي تشهده العصور الأدبيّة اللاحقة، حتي أنّه لا يکاد خطيب أو کاتب أو مفکّر بنحو عام يتخلص من تأثير هذه الانعکاسات الأدبية والفکرية کما سنشير إلي ذلک في حينه.وأهمية هذا التأثير أو الانعکاس تتمثّل في أن النتاج فکرياً لا طرح مماثل له في الميدان العلمي عصرئذٍ حيث إنّ الازدهار العلمي بدأ بعد أکثر من مائة سنة من عصر الإمام عليه السلام، کما أنّ اللغة الفنية التي استخدمها عليه السلام کانت مکثّفة بشکل يحوِّلها إلي لغة جمالية مَحضة تغرق في غابة من الصور التشبيهية والتمثيلية والاستعارية والرمزية والاستدلالية والتضمينية... الخ،وتحتشد بإيقاعات هائلة تتناول کل مفردة ومرکبة حتي لا تکاد تجد من بين

[صفحه 496]

آلاف المفردات والتراکيب مفردة أو ترکيباً خالياً من إيقاع ملحوظ فضلاً عمّا يواکب ذلک کلّه من الأدوات اللفظية والبنائية التي تحفل بما هو مدهِش ومثير في مختلف مستوياتها. والمهم بعد ذلک أن نُصنِّف هذا النتاج إلي أشکال متنوعة من التعبير الفني، يمکن درجها ضمن مايلي:

الخطبة، الرسالة، الخاطرة، المقالة، الدعاء، الزيارة، الحديث، المقابلة، المحاورة، الملاحظة.

[صفحه 497]


صفحه 494، 495، 496، 497.