محمد مهدي شمس الدين











محمد مهدي شمس الدين



إنّ نهج البلاغة سواء أنظرت إليه من ناحية الشکل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقل نظائرها في التراث الإنساني علي ضخامة هذا التراث.

فقد قيل في بيان صاحبه: إنه دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوق.

بيان معجز البلاغة، تتحول الأفکار فيه إلي أنغام، وتتحول الأنغام فيه إلي أفکار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفکرة، فإذا أنت من الفکرة أمام کائن حي، متحرک، ينبض بالحياة، ويمور بالحرکة.

وتلک هي آية الإعجاز في کل بيان.

ولم يکرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو لتعبير عن عاطفة تافهة مما اعتاد التافهون من الناس أن يکرسوا له البيان.. إن البيان في نهج البلاغة قد کرس لخدمة الإنسان.

فلم يمجد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوة الأقوياء، وإنما مجد نضال الضعفاء، ولم يمجد غني الأغنياء، وإنما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجد الظالمين العتاة، وإنما مجد الأتقياء والصلحاء.

إن الحرية والعبودية، والغني والفقر، والعدل والظلم، والجهل والعلم،

[صفحه 492]

والحرب والسلم، والنضال الأزلي في سبيل عالم أفضل لإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج البلاغة.

فنهج البلاغة کتاب إنساني بکل ما لهذه الکلمة من مدلول، إنساني باحترامه للإنسان وللحياة الإنسانية، وإنساني بما فيه من الاعتراف للإنسان بحقوقه في عصر کان الفرد الإنساني فيه عند الحاکمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنساني بما يثيره في الإنسان من حب الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموها ونقاءها.

لهذا ولغيره کان نهج البلاغة، وسيبقي علي الدهر أثراً من جملة ما يحتويه التراث الإنساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تکتنفها الظلمات.

وحق له أن يکون کذلک وهو عطاء إنسان کان کوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل، ومثلاً أعلي في کل ما يشرف الإنسان.

وفي نهج البلاغة- الذي يمثل الإسلام في صفاته ونقائه کما فهمه الإمام علي عليه السلام وعاشه، وطبقه- في نهج البلاغة أجوبة مبدئية علي کل الأمور التي نعاني منها وغيرها.

«نهج البلاغة»، إنه أثر إنساني خالد لا يحده مکان، ولا تنتهي الحاجة إليه في زمان، لأنه من الآثار الإنسانية التي لم توضع لفريق دون فريق، ولم يراع فيها شعب دون شعب، وإنما خوطب بها الإنسان أنّي وجد وکان. ولأنها تلامس کل قلب، وتضمد کل جرح، وتکفکف کل دمعة، کانت ملکاً للناس أجمعين، وکانت خالدة عند الناس أجمعين.

[صفحه 493]


صفحه 492، 493.