سليمان كتاني











سليمان کتاني



قلَّة أولئک الرجال الذين هم علي نسج عليٍّ بن أبي طالب عليه السلام، تنهد بهم الحياة، موزَّعين علي مفارق الأجيال کالمصابيح، تمتص حشاشاتها لتفنيها هدياً علي مسالک العابرين.

وهم، علي قلَّتهم، کالأعمدة، تنفرج فيما بينها فسحات الهياکل، وترسو علي کواهلها أثقال المداميک، لتومض من فوق مشارفها قبب المنائر.

وإنَّهم في کل ذلک کالرَّواسي، تتقبل هوجَ الأعاصير وزمجرة السُّحب لتعکسها من مصافيها علي السّفوح خيرات رقيقة رفيقة عذبة المدافق.

هؤلاء هم في کل آنٍ وزمان، في دنيا الإنسان، أقطابه وروّاده.

إنَّهم في حقول البحث والتنقيب مرامي حدوده، وفي کل خط ضارب في مهمَّة الوجود أقاصي مجالاته. وإنَهم له علي کلِّ المفارق إشارات ترد سبله عن جوامحها، وفي کلِّ تيه ضوابط تلملم عن الشطط شوارده. وهم له في دجية الليل قبلة من فجر، وفوق کلاحة الرَّمس لملمة من عزاء.

من بين هؤلاء القلَّة يبرز وجه علي بن أبي طالب عليه السلام في هالة من رسالة، وفي ظلٍّ من نبوَّة، فاضتا عليه انسجاماً واکتمالاً کما احتواهما لوناً وإطاراً.

أصحيح يا سيِّدي أنَّهم بدل أن يختلفوا إليک اختلفوا فيک؟!

فمنهم من فقدوک وما وجدوک.

ومنهم من وجدوک ثمَّ فقدوک.

إنَّه لعجب عجاب!!

أربعة عشر عموداً من أعمدة القرون، بساعاتها وأيّامها وسنيّها، ذابت کما تذوب حبَّة الملح علي کفِّ المحيط، ولما يذب بعد حرف من حروف اسمک الکبير.

فکيف لهؤلاء أن يفقدوک ولا يجدوک، أو يجدوک ثم يفقدوک؟! ويا لسخرية القدر! حتي هؤلاء الذين وجدوک کيف تراهم حدَّدوک؟!

إنَّ الحرف الذي انزلق عن شفتيک لا يزال منذ أربعة عشر قرناً يأبي أن يتقلَّص في زمان أو مکان، لأنَّه يحمل عنک نور قيم الفکر واعتلاجات حقيقة الحياة.. وهي أبعد من أن يحصرها إطار.

إنَّ الحرف، منطلقاً من بين شفتيک، أبي أن ينزل في نطاق، فکيف بک أنت إذ

[صفحه 486]

حدَّدوک بشوري تُنحِّيک عن إمارة، أو بيعة تصلک بخلافة؟! وکيف تمکنوا من أن يحشروک بين بداية ونهاية؟ فإذا قماطک قميص عثمان، وإذا لک علي کفِّ ابن ملجم دثار الکفن.

وکيف وجدوا تلک المقاييس فأخذوا يتلهَّون بها عنک وراحوا يقيسونک بها؟ فإذا أنت ربع القامة، لست بالطويل ولا بالقصير، عريض المنکبين تميل إلي سمنة ولست بالغليظ، وعيناک علي دعج، وعنقک کإبريق فضَّة لک ساعدان مفتولان ليس للسَّيف فقط، بل حتي لاقتلاع المزاليج.

ثم کيف أقحموک بين المشاکل والأحداث فإذا بها تتلقفک کما تتلقف الحلبة مناجزة المتصارعين؟

تبتدئ هکذا يوم الجمل بعرقبة عسکر وجندلة طلحة والزبير، وتنتهي بصفّين، حيث تتحوّل المسرحية إلي مهزلة تختتم بمأساة.

أهکذا نقشت علي حدودک تخوم وحوِّط کيانک بسوار؟.. وأنت أنت الوسيم، ليس لدعج في عينيک، بل للهب في بصيرتک. ولا لبهاء في طليعتک، بل لصفاء في سريرتک.. ولا لغيد في عنقک، بل لجبروت في شيمک.

وأنت أنت البطل، صلب السَّيف والترس في کفيک، ليس لفتلة في زنديک أو لعرض في منکبيک، بل لفيض رجح علي أصغريک، ثم فاض علي نهجيک.

وأنت أنت الناهج الأول، نسجت للدنيا قميصاً علي غير النّول الذي حيک عليه قميص عثمان. وصغت للدين حساماً کان من غير معدن سيف عشيق قطام.

وأنت أنت الذي ابتدأت الرَّکيزة وشهقت بها، تطل علي الدُّنيا فوق حدودها وفوق مداها، تحمل في يدک مصحف الرِّسالة، تلوح به علي غير النمط الذي لوِّح به في صفين مشعلاً يتجاوز وهجه سنام الجمل ومجري الفرات، ليعبر من مکة والمدينة،

[صفحه 487]

ليس إلي نفوذ الجزيرة وربعها الخالي وحسب، بل ليتجاوزها مع الشمس إلي حيث يبزغ الشروق، وإلي حيث يرتطم الغروب.

لو أدرک الذين فقدوک، وحتي الذين وجدوک، أنّک العملاق ولو بقامة قصيرة وأنَّ وجهک ولو من التراب هو من لون الشمس، لما وصفوک، ولما صدَّقوا حتي اليوم أنَّهم فقدوک.

وقوله:

إلي أين يستطيع أن يطوف بک الفکر وقد تخلَّيت عن کلِّ القيود التي کانت تشد بک عن تلک المطاوف التي کانت تهتز تحت مقارع قبضتيک؟

وکيف أصبحت تنظر إليک الدنيا بعد أن نبذت إليها کلَّ ما کان لک منها کما ينبذ الليل أمام الفجر آخر ذيل من ذيول عتماته؟

وکيف بدأت تنظر إليک ساحات الجهاد بعد أن ترکت لها السيف الصقيل والرمح الأسيل؟

لعمري، إنَّ التاسع عشر من رمضان لم يکن اليوم الأوحد الذي فيه رزمت حقائبک وشددت رحلک للسَّفر الطويل.

فلقد تهيّأت لاعتلاء المطيَّة البهيَّة منذ اليوم الأول الذي به تکحَّلت عيناک بذلک الفيض الذي من غار حراء، دُفقت عليک غموره.

ومنذ ذلک اليوم والدنيا تطأطئ رأسها بين يديک، وتلقي بکلِّ جبروتها تحت نعليک.

ومنذ تلک اللحظة، أصبحت خطواتک تتجه نحو الأقاصي، لا تستوقفها الأعاصير، ولا تلهيها رغوات الزبد؟

والدنيا التي قابلتها بخشونة کفِّک، وصدفت عنها بشمم أنفک، ورميت إليها

[صفحه 488]

بطيِّ کشحک هي اليوم التي ترنو إليک، کأنَّها أدرکت أنّک أنعم وشي لبرودها، وأنَّک أطري سحابة مرَّت تلطف النشفة في أجوائها. وأنَّک کنت أعقل معدَّل في صماماتها، تارة يطبق عليها الشح فتسد به علي اختناق، وطوراً يغور بها البطر فتحبل به علي انفتاق.

وأنَّک کنت أجرأ من مدَّ إلي خدِّها المبرّج يداً فهتک عنه الأزرار، ودخل خدرها المنمَّق فمزَّق عنه السَّتار، فإذا بالوجه السافر تفضح الشمس مساحيقه، وبالخدر المدلل المغطي بالسجف الوثيرة يتعرّي عن کلِّ مفاتنه الوبيئة.

وهکذا أخضعت الدُّمية الکبيرة، وسلختها من أغلفة الأوهام لتلبسها الثوب البسيط المعفف، وسحقت عن أجفانها سقم المراود، وعرَّضتها للنور تستجمع منه مفاتن الکحل.

وإنَّ الدنيا هذه إذ تخسر تحت عينيک بريقها الوابق، تکتسب بين راحتيک وهجها الدافق.. فإذا هي دروب آمنة الجوانب، يتمشّي عليها العابرون علي اتزان.. يحدوهم الشوق العفيف، والأمل اللطيف، والمسعي النظيف.. في سبيل الوصول إلي غفوة قريرة، لم تنغِّصها لا دلجة الطمع ولا لمز الجشع، ولم تهتکها تخاريب الفجور أو تجاويف الغرور، ولم تؤرِّقها دبابيس المظالم. وليس الفقر فيها بمن ءٍ عن الفضائل، وليس الغني منها بمغنٍ عن الشمائل.

وهکذا صنت حدود الدنيا إذ کشفت حدودها، وأسبغت عليها الکنوز من حيث بعثرت کنوزها.

لذلک، فإنَّها أصبحت ترجع إليک في کلِّ سانحة تشعر فيها بأنَّه قد غصّ بها الطريق،وفي دستورک کان لها ذلک المرجع الوثيق.

ودستورک کان ذلک الإلمام الفسيح بکل أُمور الحياة، مشاکلها ولواعجها.

[صفحه 489]

فلم تعالج شأناً من شؤونها إلا سبرت منه الأغوار وسلَّطت عليه الأنوار.

أخذت الرسالة، فإذا هي من نور ربِّک الکبير هداية ما فاتک منها قبس، جمعت إليها حجاک، فشعَّ بها منک الحجي، وضممتها إلي قواک فإذا صدرک منها کظهر المجن فرحت تغرف وتفرغ، دون أن يوهيک الغرف أو يوهنک التوزيع. کأنَّک اليم، ما ملّت من مدِّک الشطآن. ولم تأخذ کبيرة إلا عالجتها بکبر، ولم تتناول صغيرة إلا أعرتها کلَّ الفکر.. فکأنَّک کنت علي البعد وعلي القرب کالنور، جوّاد البصيرة جوّاب النظر. وتهافتت حول حياضک الفضائل مترابطة کما تترابط ببعضها البعض خطوط القوافل فإذا بها مشدودة الرصف، منسَّقة القوالب، موزونة الإيقاع،سلسة المدارج فکنت الجائد الجوّاد من حيث کنت الزاهد الزهّاد.

وعجنت الدنيا بماء الزهد وخبزتها، فإذا موائد الجود تتفتَّح علي حقيقة السخاء.. حتي إذا تناولت الرغيف المقدَّد تأکله بحبَّة ملح، کانت لک فيه کل العوافي.. ورغيفک کان کفافک، لأنَّه کان من الزهد عجينه.. ولن تحسد غيرک علي رغيف، لأنَّه من جود زهدک کان طحينة وزهدت بالدنيا، لأنَّک لم تر لها ظلّاً مقيماً ولا عزّاً مستديماً، ورأيت أنَّ دروبها ليست غير معابر، ورأيت أنَّ الإنسان فيها حثيثاً حثيثاً إلي الموت سائر، وأنَّه إليأحضان ربِّه صائر، ورأيت أنَّ الفضائل خير حلية تجمع الإنسان في دنياه، يسلکها بتقواه ويترکها بنجواه راحة في الحياة وبلغة للممات. ورأيت أنَّ المثالب بنت المتاعب، تفسد المطالب، تحتضن الأحقاد، وتقضّ المضاجع.

ولن يکون للإنسان فيها حقيقة مأرب، بل هي ملجأ العقل الواهي، ومسلک الطامع المغرور، والجائع النَّهم... هدف صغير، وشأو حقير، لن تبني إنساناً يعي

[صفحه 490]

حقيقة الوجود، بل تبقي له مصدر قلق في سباق أليم، ينهکه التَّزاحم، ويدهدهه التحايل والتراوغ. فمددت باعک الطولي تفرض العفَّة في المسلک، والصِّدق في المنطق، والصَّراحة في الرأي، والحق في الفصل، والعدل في التنفيذ.. فإذا بک تمد الخوان تغنيه الفضائل، وتزيِّنه الشَّمائل، وتطيِّبه التقوي، ويشهيه الإيمان.

وعجينک هو العجين المطهر، لم تمتد إليه يد البغي بأصبع وکان المأکل منه نعم المأکل.. فيه الغذاء وفيه العزاء. فيه الرضوخ وفيه الرضا، فيه الحب وفيه السماح، وفيه السعي علي إباء. وفيه الفکر علي نبالة. وفيه يقظة الوجدان، وفيه روعة الإنسان. هذا ما ترکته للدنيا من حقيقة الدنيا.

فلا عجب أن تجوع الدنيا إلي صوانيک کلَّما غصَّت بموائدها، أو تتعطش إلي مساقيک کلَّما غرقت في مناهلها.

والدنيا إنَّما سغبها في تخمتها، وإنَّما صداها بفيض غمرها.

أما إنَّ أطباقک کيف لا تتخم، ومشاربک کيف لا تغرق، فلأنَّک الذوّاق، إذ قدمت فنَّ المأکل وفنَّ المشرب.

وهکذا لا تزال الدنيا بأجيالها تغرف الطيب من أفاويهک، يا أيّها الوجه الکريم من سنا ربِّک.

[صفحه 491]


صفحه 486، 487، 488، 489، 490، 491.