بولس سلامة











بولس سلامة



تصدي بولس سلامة للکتابة عن نفسه، فلنستمع إليه يحدثنا:

نشرت مجلة الأديب الغراء في خلال سنة 1947 إحدي قصائدي القديمة (حمدان البدوي) وکأن طريقتي في سرد تلک القصة المنظومة لفتت الأدباء، فتمني عليّ فضيلة العلامة الشيخ عبداللَّه العلايلي في العدد نفسه أن أنظم (أيام العرب) في ملحمة لافتقار الأدب العربي إلي الملاحم. وفي أعقاب خريف سنة 1947 اقترح عليَّ حضرة الإمام الشريف، صاحب السماحة السيد عبدالحسين شرف الدين نظم (يوم الغدير) فتزاحمت عليَّ الفِکَر وايقظت کوامن الوجدان وتآلفت کما تتآلف المويجات علي صفحات اليمّ، ثم تتکشف عن أمواج ترقض علي الشاطئ، فصحت عزيمتي علي نظم ملحمة عنوانها (عيد الغدير(.

إلي أن قال:

ورُبَّ معترض قال: ما بال هذا المسيحي يتصدي لملحمة إسلامية بحتة؟ أجل انني مسيحي ولکن التاريخ مشاع للعالمين.

أجل إني مسيحي ينظر من افق رحب لا من کوة ضيقة، فيري في غاندي الوثني قديساً، مسيحي يري (الخلق کلهم عيال اللَّه) ويري أن (لا فضل لعربي علي عجمي إلّا بالتقوي(.

مسيحي ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها خمساً کل يوم. رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً، وأبعد أثراً، وأخلد ذکراً. رجل أطلّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواء مجيد، کُتب عليه بأحرف من نور: لا إله إلّا اللَّه! اللَّه أکبر!

إن العروبة المستيقظة اليوم في صدور أبنائها، من المغرب الأقصي إلي آخر جزيرة العرب، لأحوج ما تکون إلي التمثل بأبطالها الغابرين، وهم کثر، علي أنه لم يجتمع لواحد منهم ما اجتمع لعلي من البطولة والعلم والصلاح. ولم يقم في وجه الظالمين أشجع من الحسين فقد عاش الأب للحق وجرّد سيفه للذياد عنه منذ يوم بدر، واستشهد الإبن في سبيل الحرية يوم کربلاء، ولا غرو فالأول ربيب محمد

[صفحه 478]

والثاني فلذة منه.

قد يقول قائل: ولمَ آثرت علياً دون سواه من اصحاب محمد صلي الله عليه و آله و سلم بهذه الملحمة؟ ولا اجيب علي هذا السؤال إلّا بکلمات، فالملحمة کلها جواب عليه، وستري في سياقها بعض عظمة الرجل الذي يذکره المسلمون فيقولون: رضي اللَّه عنه، وکرّم وجهه، وعليه السلام ويذکره النصاري في مجالسهم فيتمثلون بحکمه ويخشعون لتقواه، ويتمثّل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهداً وقنوتاً، وينظر إليه المفکر فيستضي ء بهذا القطب الوضاء، ويتطلع إليه الکاتب الألمعي فيأتم ببيانه، ويعتمده الفقيه المدره فيسترشد باحکامه.

أما الخطيب فحسبه أن يقف علي السفح، ويرفع الرأس الي هذا الطود لتنهلّ عليه الآيات من عَلِ، وينطلق لسانه بالکلام العربي المبين الذي رسّخ قواعده ابوالحسن، إذ دفعها إلي أبي الأسود الدؤلي فقال: أنح هذا النحو. وکان علم النحو. ويقرأ الجبان سيرة علي فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء، ولم تظل السماء أشجع من ابن أبي طالب، فعلي ذلک الساعد الأجدل اعتمد الاسلام يوم کان وليداً، فعليّ هو بطل بدر وخيبر والخندق وحنين ووادي الرمل والطائف واليمن.

وهو المنتصر في صفين، ويوم الجمل، والنهروان، والدافع عن الرسول يوم أُحد، وقيدوم السرايا ولواء المغازي.

وأعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية، فلم يُرَ أصبر منه علي المکاره. إذ کانت حياته موصولة الآلام منذ فتح عينيه علي النور في الکعبة حتي اغمضهما علي الحق في مسجد الکوفة.

وبعد فلم تسائلني بأبي الحسن؟ أو لم تقم في خال العصور فئات من الناس

[صفحه 479]

تؤلّه الرجل؟ ولا ريب إنها الضلالة الکبري، ولکنها ضلالة تدلک علي الحق إذ تدلک علي مبلغ افتتان الناس بهذه الشخصية العظمي.

ولم يستطع خصوم عليّ ان يأخذوا عليه مأخذاً فاتهموه بالتشدّد في احقاق الحق، أي إنهم شکوا کثرة فضله فأرادوه دنيوياً يماري ويداري، وأراد نفسه روحانياً رفيعاً يستميت في سبيل العدل، لا تأخذه في سبيل اللَّه هوادة. وانما الغضبة للحق ثورة النفوس القدسية، التي يؤلمها أن تري عوجاً.

فيا أباالحسن! ماذا أقول فيک؟ وقد قال الکتّاب في المتنبي: (إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس) وإن هو إلا شاعر له حفنة من الدرّ إزاء تلال من الحجارة. وما شخصيته حيال عظمتک إلا مَدَرَة علي النيل خجلي من عظمة الأهرام.

حقاً ان البيان ليسفّ، وإن شعري لحصاة في ساحلک يا أمير الکلام، ولکنها حصاة مخضوبة بدم الحسين الغالي، فتقبل هذه الملحمة وانظر من رفارف الخلد إلي عاجزٍ شرّف قلمه بذکرک.

[صفحه 480]


صفحه 478، 479، 480.