نوري جعفر











نوري جعفر



من کتابه (علي ومناوئوه) ينقل بعضها الدکتو طه حسين:

أما اذا نظر الباحث الي مواقف الإمام نفسه في حماية الدعوة الاسلامية وصاحبها من مؤامرات کفار قريش، تلک المواقف التي دلت علي کفاءته لتسلم خلافة الرسول صلي الله عليه و آله و سلم بعد وفاته من جهة، والتي اهلته لتسنم ذلک المنصب الرفيع من جهة أخري. فإنه يجد تلک المواقف المشرفة کثيرة العدد «تتزاحم بالمناکب وتتدافع بالراح» بحيث يصبح أمر الموازنة بينها «لاختيار بعضها للاستشهاد به»

[صفحه 445]

من أصعب الأمور. وقبل أن نتطرق إلي ذکر أهمها، يجمل بنا أن نشير إلي الظروف الخاصة التي ربطت بين علي والإسلام من جهة، وبينه وبين النبي من جهة أخري، وبقدر ما يتعلق الأمر بصلة الإسلام بعلي، أو صلة علي بالإسلام،يمکننا أن نقول مع العقاد: «لقد ملأ الدين الجديد قلباً لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة، ولم يخالطه شوب يکدر صفاءه ويرجع به إلي عقابيله، فبحق ما يقال: إن علياً کان المسلم الخالص علي سجيته المثلي، وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاما منه ولا أعمق نفاذاً فيه».

فقد بعث النبي علي ما يقول الدکتور طه حسين: وعليٌّ عنده صبي فأسلم.. وظل بعد إسلامه في حجر النبي يعيش بينه وبين خديجة أم المؤمنين وهو لم يعبد الأوثان قط.. فامتاز بين السابقين الأولين بأنه نشأ نشأة إسلامية خالصة. وامتاز کذلک بأنه نشأ في منزل الوحي بأدق معاني هذه الکلمة.

أما الآثار العميقة التي ترکتها هذه البيئة الإسلامية الصافية في خلق الإمام، في عقله، وقلبه، ولسانه، ويده، فتعتبر من أوليات الأمور المسلم بها عند الباحثين الحديثين في علم النفس، وعلم الاجتماع.

إن علياً کان مهيئاً للخلافة بعد الرسول، هذا إذا نظرنا للخلافة من جوانبها الزمنية، وأن صلاته بالرسول وبالإسلام، وصلات الإسلام والرسول به تؤهله لذلک.

ولو احتج المسلمون أثناء السقيفة بعد وفاة النبي: «أن علياً کان أقرب الناس إليه، وکان ربيبه، وکان خليفته علي ودائعه، وکان أخاه. بحکم تلک المؤاخاة، وکان ختنه وأباعقبه، وکان صاحب لوائه، وکان خليفته في أهله، وکانت منزلته منه بمنزلة هارون من موسي بنص الحديث عن النبي صلي الله عليه و آله و سلم نفسه.

[صفحه 446]

لو قال المسلمون هذا کله واختاروا علياً بحکم هذا کله، لما أبعدوا ولا انحرفوا.

وکان کل شي ء يرشح علياً للخلافة... قرابته من النبي، وسابقته في الإسلام، ومکانته بين المسلمين، وحسن بلائه في سبيل اللَّه، وسيرته التي لم تعرف العوج قط، وشدته في الدين، وفقهه بالکتاب والسنة، واستقامة رأيه».

خلافة الإمام

لقد کان عليّ موفقاً کل التوفيق، ناصحاً للإسلام کل النصح.. صبر نفسه علي ما کانت تکره. وطابت نفسه للمسلمين بما کان يراه حقاً.. بايع علي ثاني الخلفاء کما بايع أولهم کراهية للفتنة.. ونصحاً للمسلمين.

ولم يظهر مطالبته بما کان يراه حقاً له. ونصح لعمر کما نصح لأبي بکر.. وقد بايع عثمان کما بايع الشيخين. وهو يري أنه مغلوب علي حقه. ولکنه علي ذلک لم يتردد في البيعة، ولم يقصر في النصح للخليفة الثالث، کما لم يقصر في النصح للشيخين من قبله.. فکان طبيعياً إذن حين قتل عثمان أن يفکر علي في نفسه، وفيم غلب عليه من حقه.

ولکنه مع ذلک لم يطلب الخلافة، ولم ينصب نفسه للبيعة إلا حين استکره علي ذلک استکراهاً.

وقد أوجز الإمام سياسته العامة في أول خطبة خطبها حين استخلف فقال: «إن اللَّه أنزل کتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر. فخذوا الخير ودعوا الشر والفرائض أدوها. اتقوا اللَّه عباد اللَّه في عباده وبلاده.. وإنکم مسؤولون حتي عن البقاع والبهائم».

کلمات قصار ولکنها تتضمن إجراء تغيير واسع المدي، وعميق الغور في

[صفحه 447]

علاقات المسلمين ببعضهم وبالخليفة.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن الإمام- کما يحدثنا مؤرخوه- قد اعتذر مراراً عن قبول الخلافة علي الرغم من إلحاح المسلمين عليه.

وقد مر بنا طرف من ذلک.

ولقد أشار الإمام نفسه إلي ذلک في مواطن شتي من «نهج البلاغة»، قال يصف تزاحم المسلمين عليه وإلحاحهم الشديد علي مبايعته:

«دعوني والتمسوا غيري. فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنکرت. واعلموا أني إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغ إلي قول القائل، وعتب العاتب».


صفحه 445، 446، 447.