معركة الجمل











معرکة الجمل



سُمِّيت بذلک لأنَّ «قائدة الجيش» فضَّلت رکوب الجمل علي البغال والحمير، وکانت الواقعة في 4 کانون الأوَّل سنة 646م[1] ، يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة 36هـ[2] .

وکانت الوقعة خارج البصرة، عند قصر عبيدالله بن زياد[3] وکان عسکر الإمام عشرين ألفاً، وعسکر عائشة ثلاثين ألفاً[4] .

ولمَّا التقي الجمعان قال الإمام لأصحابه: «لا تبدأوا القوم بقتال، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علي جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً، ولا تکشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلي رحال القوم فلا تهتکوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً.. ولا تهيجوا امرأةً بأذي وإن شتمن أعراضکم، وسَبَبنَ أمراءکم وصلحاءکم»[5] .

وقيل: إنَّ أوَّل قتيل کان يومئذٍ مسلم الجُهني، أمره عليٌّ عليه السلام فحمل مصحفاً، فطاف به علي القوم يدعوهم إلي کتاب الله، فقُتل[6] .

ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسکر الإمام بالنبال، حتي قُتل منهم جماعة، فقال أصحاب الإمام: عقرتنا سهامهم، وهذه القتلي بين يديک..

[صفحه 201]

عند ذلک استرجع الإمام وقال: «اللَّهمَّ اشهد»، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب؛ فدفعها إلي ولده محمَّد بن الحنفية.

وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتي اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ عليه السلام: «لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن کنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تکونا (کَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنکَاثاً)[7] .

ألم أکن أخاکما في دينکما، تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمکما، فهل من حدثٍ أحلَّ لکما دمي»؟!

قال طلحة: ألَّبت علي عُثمان.

قال عليٌّ: «(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقّ)، يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسک في البيت! أما بايعتني؟!».

قال: بايعتک والسيف علي عنقي!

فقال عليٌّ عليه السلام للزبير: «يا زبير، ما أخرجک؟ قد کنَّا نعدُّک من بني عبدالمطَّلب حتي بلغ ابنک ابن السوء[8] ، ففرَّق بيننا» وذکَّره أشياء، فقال: «أتذکر يوم مررت مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في بني غنم، فنظر إليَّ، فضحک، وضحکت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لک: ليس به

[صفحه 202]

زهوٌ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟».

قال: اللَّهمَّ نعم، ولو ذکرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أُقاتلک أبداً.

فانصرف الزبير إلي عائشة، فقال لها: ما کنتُ في موطن منذ عقلت الا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا.

قالت: فما تريد أن تصنع؟

قال: أُريد أن أدعهم وأذهب.

قال له ابنه عبدالله: جمعت بين هذين الغارين، حتي إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تترکهم وتذهب؟! لکنَّک خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنَّها تحملها فتيةٌ أنجاد، وأنَّ تحتها الموت الأحمر، فجبنت!

فاحفظه ـ أي: أغضبه ـ ذلک، وقال: إنِّي حلفتُ الا أُقاتله.

قال: کفِّر عن يمينک، وقاتله.

فأعتق غلامه (مکحولاً)، وقيل: سرجيس.

فقال عبدالرحمن بن سلمان التميميُّ:


لم أرَ کاليوم أخا إخوانِ
أعْجَبَ من مُکَفِّرِ الايمانِ


بالعتق في معصية الرحمن[9] .

وقيل: إنَّه عاد ولم يقاتل الإمام عليه السلام[10] .

واحتدمت المعرکة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة

[صفحه 203]

أشدَّ منه، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحکم رمي طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه السلام! يرميه فيرديه ويقول: لا أطلب بثأري بعد اليوم[11] .

واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ سوي الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوي أجساد المسلمين علي الأرض.

ولمَّا رأي الإمام هذا الموقف الرهيب من کلا الطرفين، وعلم أنَّ المعرکة لا تنتهي أبداً مادام الجمل واقفاً علي قوائمه قال: «إرشقوا الجمل بالنبل، واعقروه والا فنيت العرب، ولايزال السيف قائماً حتي يهوي هذا البعير إلي الأرض». فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف، فهوي إلي الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من کان حوله کالجراد المبثوث، وبقيت قائدة المعرکة لوحدها في ميدان الحرب! وانتهت المعرکة بهزيمة المتمرِّدين من أصحاب الجمل.

أمَّا الإمام عليه السلام فقد هاله موقف المسلمين منه، حتي ساقهم هذا العصيان والتمرُّد علي الحقِّ إلي مثل هذا المصير، فوقف بين قتلاه وقتلي المتمرِّدين، تحيط به هالة القلق والتمزُّق فقال: «هذه قريشٌ، جَدَعْتُ أنفي وشفيتُ نفسي، لقد تقدَّمت إليکم أُحذِّرکم عضَّ السيوف، وکنتم أحداثاً لا علم لکم بما ترون، ولکنَّه الحَين[12] ، وسوء المصرع، فأعوذ بالله من سوء المصرع»؟[13] .

ثمَّ أمر عليٌّ عليه السلام نفراً أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلي، وأمر

[صفحه 204]

أخاها محمَّد بن أبي بکر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال: «انظر هل وصل إليها شيء من جراحة»؟ فأدخل رأسه في هودجها، فقالت: من أنت؟ قال: أبغض أهلک إليک. قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: يا بأبي، الحمد لله الذي عافاک؟![14] .

فلمَّا کان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بکر البصرة، في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام عليه السلام البصرة فبايعه أهلها علي راياتهم حتي الجرحي والمستأمنة..

ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه السلام عائشة بکلِّ ما ينبغي لها من مرکبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلک، وبعث معها کلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، الا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بکر[15] .

وقيل: إنَّه لمَّا أُخذ مروان بن الحکم أسيراً يوم الجمل، فتکلَّم فيه الحسن والحسين عليهما السلام فخلَّي سبيله فقالا له: «يبايعک، يا أمير المؤمنين؟» فقال: «ألم يبايعني بعد قتل عُثمان، لا حاجة لي في بيعته، أما إنَّ له إمرة کلعقة الکلب أنفه، وهو أبو الأکبش الأربعة، وستلقي الأُمَّة منه ومن ولده موتاً أحمر». فکان کما قال عليه السلام[16] .

ورُبَّ سائل يسأل: ما هي الآثار التي ترکتها فتنة الجمل؟

فيُجيب الأستاذ محمَّد جواد مغنية بقوله: «لولا حرب الجمل لما کانت

[صفحه 205]

حرب صفِّين والنهروان، ولا مذبحة کربلاء، ووقعة الحرّة، ولا رُميت الکعبة المکرَّمة بالمنجنيق أکثر من مرَّة، ولا کانت الحرب بين الزبيريِّين والأُمويِّين، ولا بين الأُمويِّين والعباسيِّين، ولما افترق المسلمون إلي سُنَّة وشيعة، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون علي التفريق والشتات، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملکاً يتوارثها الصبيان، ويتلاعب بها الخدم والنسوان.

لقد جمعت حرب الجمل جميع الرذائل والنقائص، لأنَّها السبب لضعف المسلمين وإذلالهم، واستعبادهم وغصب بلادهم، فلقد کانت أوَّل فتنةٍ ألقت بأس المسلمين بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، بعد أن کانوا قوَّةً علي أعدائهم، کما فسحت المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بکيان المسلمين ووحدتهم، ومهَّدت لحکم الترک والديلم والصليبيِّين وغيرهم. وباختصار لولا فتنة الجمل لاجتمع أهل الأرض علي الإسلام، لأنَّ رحمته تشمل الناس أجمعين (وَمَا أرْسَلْنَاکَ الا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين) وقال النبيُّ صلي الله عليه وآله وسلم: «إنَّما أنا رحمة مهداة»»[17] .



صفحه 201، 202، 203، 204، 205.





  1. فضائل الإمام عليٍّ: 128، عن بروکلمن في (تاريخ الشعوب الإسلامية).
  2. فضائل الإمام عليٍّ: 128، عن الواقدي والمسعودي.
  3. سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين): 254.
  4. الکامل في التاريخ 3: 241ـ 242.
  5. الکامل في التاريخ 3: 242ـ 243.
  6. سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين): 259.
  7. سورة النحل: 92.
  8. يريد ابنه عبدالله.
  9. تاريخ الطبري 5: 200، الکامل في التاريخ 3: 239، مستدرک الحاکم 3: 366ـ 367.
  10. الإمامة والسياسة: 73.
  11. سير أعلام النبلاء (ترجمة الإمام عليٍّ): 255، وانظر، الکامل في التاريخ 3: 128.
  12. الحين: الهلاک.
  13. الإرشاد 1: 254.
  14. الکامل في التاريخ 2: 140.
  15. الکامل في التاريخ 2: 144.
  16. إعلام الوري 1: 340.
  17. فضائل الإمام عليٍّ: 138ـ 139.