مسير الإمام إلي البصرة ووقعة الجمل











مسير الإمام إلي البصرة ووقعة الجمل



بينما کان الإمام عليٌّ يجهِّز جيشاً إلي الشام بقيادته؛ لکسح معاوية وبطانته الفاسدة، أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مکَّة بما عزموا عليه، فاستعدَّ لحرب الناکثين «وسار عليٌّ من المدينة في تعبئته التي تعبَّاها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ستٍّ وثلاثين»[1] .

رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحکم العريضة، وکان وسامها: «لا فضل لعربي علي أعجمي»، أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين علي الحکم، وکان منهم ما کان من الخروج عليه، فلمَّا أدرک طلحة والزبير برفض الإمام أن يجعل لهما ميزة علي غيرهما، فلا ينالان الا ما ينال المسکين والفقير بعطاء متساوٍ..

بعد أن أدرکا کلَّ هذا سکتا علي مضضٍ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه، ضدَّ الحکم الجديد، فانضمَّا إلي الحزب الأُموي..

لقد کان قرار التسوية «هو السبب الخفي والحقيقي لخروج من خرج علي عليٍّ، ولنکوث من نکث بيعته، وإن تواري ذلک تحت دعوي مفتعلة اسمها دم عُثمان»[2] .

[صفحه 195]

واستغلَّ هذا الجانب سخط عائشة علي الإمام عليٍّ عليه السلام ومواقفها العدائية منه.. فلمَّا کانت بمکَّة، وقد خرجت إليها قبل أن يُقتل عُثمان، فلمَّا کانت في بعض طريقها راجعةً إلي المدينة لقيها ابن أمِّ کلاب، فقالت له: ما فعل عُثمان؟

قال: قُتل!

قالت: بُعداً وسحقاً، فمن بايع الناس؟

قال: طلحة.

قالت: إيهاً ذو الإصبع.

ثمَّ لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟

قال: بايعوا عليَّاً.

قالت: والله ما کنت أُبالي أن تقع هذه علي هذه، ثُمَّ رجعت إلي مکَّة[3] .

فانصرفت إلي مکَّة وهي تقول: قُتل والله عُثمان مظلوماً، والله لأطلبنَّ بدمه!

قيل لها: ولِمَ؟ والله إنَّ أوَّل من أمال حَرْفَه لأنتِ، ولقد کنتِ تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد کفر.

قالت: إنَّهم استتابوه، ثُمَّ قتلوه، وقد قلتُ وقالوا، وقولي الأخير خيرٌ من قولي الأوَّل.

فقال لها ابن أمِّ کلاب:

[صفحه 196]

فمنـکِ البداءُ ومنکِ الغِيـرْ
ومنکِ الريـاحُ ومنکِ المطرْ


وأنتِ أمرتِ بقتل الإمــام
وقلتِ لنــا: إنَّه قد کفـرْ


فَهَبْنا أطعنــاک في قتلِـه
وقاتِلُـه عندنــا مَنْ أمـرْ


ولم يسقطِ السقفُ من فوقنا
ولم ينکسف شمسنا والقمـرْ


وقد بايع النــاس ذا تُدرءٍ
يزيلُ الشبا ويُقيم الصعــرْ


ويلبسُ للحربِ أثوابها
وما مَنْ وفي مثلُ من قد غدرْ[4] .


وقبل أن يخرج موکب عائشة ويدلو بدلوه، کان الإمام عليه السلام يقول: «أمرتُ بقتال الناکثين والقاسطين والمارقين»[5] ، فما مضت الأيَّام حتي قاتلهم، وهذه من جملة الآيات الدالَّة عليه، وقوله عليه السلام لطلحة والزبير لمَّا استأذناه في الخروج إلي العمرة، قال: «والله والله ما تريدان العمرة وإنَّما تريدان البصرة»[6] !

وکان من نتائج هذا التمرُّد ـ کما سنأتي عليه ـ معرکة البصرة، أوَّل نکث لبيعة الإمام عليه السلام التي انتهت بفشل موکب عائشة وقتل طلحة والزبير وعشرات الألوف من المسلمين!

تهيَّأت عائشة للخروج إلي البصرة، وأتت أُمُّ سلمة فکلَّمتها في الخروج معهم، فردَّت عليها أُمُّ سلمة قائلةً:

أفأُذکِّرک؟

[صفحه 197]

قالت: نعم.

قالت أُمُّ سلمة: أتذکرين إذ أقبل رسول الله ونحن معه، فخلا بعليٍّ يناجيه، فأطال فأردتِ أن تهجمي عليهما، فنهيتک فعصيتيني، فهجمتِ عليهما، فما لبثت أن رجعتِ باکية، فقلتُ: ما شأنک؟ فقلت: إنِّي هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلتُ لعليٍّ: ليس لي من رسول الله الا يوم من تسعة أيَّام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عليَّ وهو غضبان محمرُّ الوجه، فقال: «ارجعي وراءک، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس الا وهو خارج من الإيمان»؟

قالت عائشة: نعم أذکر[7] .

لکن لم يردعها کلام ولا رادع، فلم تنثنِ عن عزمها، ولم ترجع إلي عقلها، فتجهَّزت ومن معها إلي البصرة لتؤلِّب الناس علي الإمام عليٍّ عليه السلام فکانت أحداث معرکة الجمل.

تحرَّک موکب الناکثين بقيادة عائشة وطلحة والزبير نحو البصرة، وقد حفَّ به الحاقدون علي الإمام عليٍّ عليه السلام تحت شعار: «الثأر لعثمان»، فلمَّا بلغوا «ذات عرق» لقيهم سعيد بن العاص ومروان بن الحکم وأصحابه، فقال لهم: أين تذهبون وتترکون ثأرکم علي أعجاز الإبل وراءکم؟ـ يعني عائشة وطلحة والزبير ـ اقتلوهم ثُمَّ ارجعوا إلي منازلکم.

[صفحه 198]

فقالوا: نسير لعلَّنا نقتل قتلة عُثمان جميعاً[8] .

ومرَّ القوم ليلاً بماء يُقال له: الحوأب، فنبحتهم کلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟

قال بعضهم: ماء الحوأب.

فقالت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هذا الماء الذي قال لي رسول الله: «لا تکوني التي تنبحکِ کلاب الحوأب». ثمَّ صرخت بهم: ردُّوني ردُّوني!!

فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا بالله أنَّه ليس بماء الحوأب! وأتي عبدالله بن الزبير، فحلف لها بالله لقد خلَّفتهِ أوَّل الليل، وأتاها ببيِّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلک[9] فکان ذلک أوَّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام.

وبلغوا البصرة، وعامل الإمام عليها الصحابي عُثمان بن حُنيف الأنصاري، فمنعهم من الدخول، وقاتلهم، ثُمَّ توادعوا الا يحدثوا حدثاً حتي يقدم عليٌّ عليه السلام، ثُمَّ کانت ليلة ذات ريح وظلمة، فأقبل أصحاب طلحة فقتلوا حرس عُثمان بن حنيف، ودخلوا عليه، فنتفوا لحيته وجفون عينيه ومثَّلوا به، وقالوا: لولا العهد لقتلناک، وأخذوا بيت المال[10] .

[صفحه 199]

وأمّا الإمام علي فلما بلغه نبأ مسيرهم إلي البصرة، حمد الله وأثني عليه، ثُمَّ قال: «قد سارت عائشة وطلحة والزبير، کلُّ واحدٍ منهما يدَّعي الخلافة دون صاحبه، فلا يدَّعي طلحة الخلافة الا أنَّه ابن عمِّ عائشة، ولا يدَّعيها الزبير الا أنَّه صهر أبيها. والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنَّ الزبير عنق طلحة، وليضربنَّ طلحة عنق الزبير، يُنازع هذا علي الملک هذا.

وقد ـ والله ـ علمتُ أنَّها الراکبة الجمل، لا تحلُّ عقدةً ولا تسيرُ عقبةً، ولا تنزلُ منزلاً الا إلي معصيةٍ، حتي تورد نفسها ومن معها مورداً، يُقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويرجعُ ثلثهم.

والله إنَّ طلحة والزبير ليعلمان أنَّهما مُخطئان وما يحملان، ولربَّما عالم قتله جهلُهُ وعلمه معه لا ينفعه. والله لينبحها کلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبرٌ أو يتفکَّر متفکِّرٌ»!

ثمَّ قال: «قد قامت الفئة الباغية فأين المحسنون»؟[11] .

ثمَّ دعا علي طلحة والزبير أمام مسلمي الکوفة، فقال: «قد علمتم ـ معاشر المسلمين ـ أنَّ طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين، ثُمَّ استأذناني في العمرة فأذنتُ لهما، فسارا إلي البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنکر.

اللَّهمَّ إنَّهما قطعاني وظلماني ونکثا بيعتي وألَّبا الناس عليَّ، فاحلُل ماعقدا، ولا تُحکمْ ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا»[12] .

[صفحه 200]



صفحه 195، 196، 197، 198، 199، 200.





  1. الکامل في التاريخ 3: 114.
  2. الزيدية، د. أحمد صبحي: 44، مؤسَّسة الزهراء للإعلام العربي ـ 1984م.
  3. الامامة والسياسة 1: 52، شرح ابن أبي الحديد 6: 215ـ 216، تاريخ اليعقوبي 2: 180، کتاب الدلائل: 97.
  4. الکامل في التاريخ 3: 100، الفتوح 1: 434، تاريخ الطبري 5: 172، الإمامة والسياسة 1: 52.
  5. إعلام الوري 1: 336، المستدرک 3: 150 و 4674 و4675، أسد الغابة 4: 124، البداية والنهاية 7: 362.
  6. إعلام الوري 1: 337ـ 338.
  7. أنظر: ابن أبي الحديد 6: 217ـ 218.
  8. الإمامة والسياسة 1: 63، وانظر الکامل في التاريخ 2: 102.
  9. أنظر قصَّة ماء الحوأب في: تاريخ اليعقوبي 2: 181، ابن أبي الحديد 6: 225، تاريخ ابن الأثير 2: 103، مسند أحمد 6: 52، 97، المستدرک 3: 119ـ 120، کنز العمَّال 11 ح، 31667.
  10. أنظر: تاريخ اليعقوبي 2: 181، تاريخ ابن الأثير 2: 108، الإمامة والسياسة: 69.
  11. إرشاد المفيد 1: 246ـ 247.
  12. إرشاد المفيد 1: 250، الطبعة الحجرية.