الغاء التمايز الطبقي











الغاء التمايز الطبقي



ساد في عهد «عمر» و«عُثمان» تمايز طبقي في توزيع الثروة من بيت المال، حتي أصبح الناس قسمين، قسم في عداد الأثرياء وما فوق ذلک، وآخرون لا يرتفعون عن مستوي الفقر کثيراً! حتي تسبَّبت هذه السياسة الظالمة في استثراء تفاوت طبقي خطير..

فأعلن الإمام عليٌّ عليه السلام إلغاء التمايز الطبقي بکلِّ أسبابه، وعهد إلي التسوية بين الناس في العطاء، فالناس عنده سواسية کأسنان المشط، وانقطعت آمال الطبقة الغنية التي لم تنظر للدنيا الا في منظار مادِّي.

فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «ألا لا يقولنَّ رجال منکم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار ورکبوا الخيول الفارهة، واتَّخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلک عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما کانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلي حقوقهم التي يعلمون، فينتقمون ذلک ويستنکرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!»[1] .

ولمَّا نودي لقبض الحقوق، قال الإمام عليٌّ عليه السلام لعبيدالله بن أبي رافع

[صفحه 186]

ـ کاتبه ـ: «إبدأ بالمهاجرين فناديهم، وأعطِ کلَّ رجلٍ ممَّن حضر ثلاثة دنانير، ثُمَّ ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلک، ومن حضر من الناس کلُّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلک»!

وتخلَّف يومذاک رجال منهم: طلحة، والزبير، وعبدالله بن عمر، وسعد بن العاص، ومروان بن الحکم، قد عزَّ عليهم أن يکونوا کغيرهم من الموالي والعبيد!

هناک خطب الإمام عليٌّ عليه السلام مرَّةً أُخري قال فيه: «هذا کتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلک الا جاهل عانَدَ عن الحقِّ، منکر، قال تعالي: (يَاأيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاکُم مِن ذَکَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أکْرَمَکُمْ عِندَ اللهِ أتْقَاکُم)» ثُمَّ صاح بأعلي صوته «(أطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإن تَوَلَّوا فَإنَّ اللهَ لأ يُحِبُّ الْکَافِرِين)! أتمنُّون علي الله ورسوله بإسلامکم؟! (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْکُمْ أنْ هَدَاکُمْ لِلإِِيمَانِ إن کُنتُمْ صَادِقِين) أنا أبو الحسن، ألا إنَّ هذه الدنيا التي أصبحتم تمنُّونها وترغبون فيها، وأصبحت تُغضبکم وترضيکم، ليست بدارکم ولا منزلکم الذي خُلقتم له، فلا تغرَّنکم فقد حذَّرتکموها..

فأمَّا هذا الفيء فليس لأحدٍ علي أحدٍ فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون.. وهذا کتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيِّنا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولَّ کيف يشاء! فإنَّ العامل بطاعة الله والحاکم بحکم الله لا وحشة عليه»[2] .

[صفحه 187]

وقال عليه السلام: «أتأمرونِّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليِّتُ عليه! والله لاأطور به ما سَمَرَ سَميرٌ[3] ، وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً! لو کان المال لي لسوِّيت بينهم، فکيف وإنَّما المال مال الله؟!»[4] .

وکان ذلک أبلغ وأروع خطاب يهزُّ المشاعر، فهنيئاً لمن عاش في ظل النبوَّة والإمامة الحقَّة!

ثُمَّ بعث أمير المؤمنين عليه السلام الي طلحة والزبير، يعاتبهما علي ما فعلاه من الصدِّ والإکراه، فقال ـ بعدما ذکَّرهما ببيعتهما له، وهو کاره ـ: «ما دعاکما بعد إلي ما أري؟ ما الذي کرهتما من أمري حتي رأيتما خلافي؟!».

قالا: أعطيناک بيعتنا، علي أن لا تقضي الأُمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في کلِّ أمرٍ ولا تستبدَّ بذلک علينا.. إنَّک جعلت حقَّنا کحقِّ غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القَسْم وتقطع الأمر، وتُمضي الحکم بغير مشاورتنا ولا علمنا.

فقال: «فوالله ما کانت لي في الخلافة رغبة، ولکنکم دعوتموني إليها، وجعلتموني عيها فخفت أن اردّکم فتختلف الأمة، فلمّا أفضتْ إليَّ نظرتُ إلي کتاب الله وسنّة رسوله فأمضيت ما دّلاني عليه واتبعته ولم احتج في ذلک إليآرائکما فيه، ولا رأي غيرکما،ولو وقع حکم ليس في کتاب الله بيانه ولافي السنّة برهانه، واحتيج إلي المشاورة فيه لشاورتکما فيه. وأما القسم والأُسوة، فإن ذلک أمر لم أحکم فيه باديء بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم

[صفحه 188]

يحکم بذلک،... أخذ الله بقلوبنا وقلوبکم إلي الحق وألهمنا وإياکم الصبر».

ثم قال عليه السلام: «رحم الله امرءاً رأي حقاً فأعان عليه، ورأي جوراً فردّه، وکان عوناً للحق علي من خالفه»[5] .

وکان موقف عليٌّ عليه السلام من أمثال هؤلاء، هو اتباع لغة القرآن الکريم وسُنَّة الرسول العظيم، عليه أفضل الصلاة وأزکي السلام، فلم يبدل حکماً ويستبدل بآخر، غير الذي رآه أنَّه جادَّة الصواب المستقيمة، وزهق الباطل إن الباطل کان زهوقاً!

هذه هي الثورة الاجتماعية التي أحدثها الإمام عليه السلام، والتي کانت من أشدِّ الصعوبات التي واجهها في ذاک المجتمع الشائب بأدران الآلهة والأوثان! هذه هي التسوية بين الفقراء والمساکين والأغنياء الذين طغوا بالأموال.. وسنري قريباً نتائج هذه التسوية في خروج الناکثين والقاسطين علي الخليفة الحق، تحت شعارٍ زائفٍ وحجَّةٍ داحضةٍ وهي «دم عُثمان»!

ومن مظاهر العدل والمساواة انتزاع الأموال والثروات التي تصرَّف بها عُثمان، وکأنَّها ملکٌ له لا للمسلمين، والتي أغدقها علي ذويه وخاصَّته من أزلام بني أُميَّة من هدايا ضخمة والي ما شابه ذلک.

فقام الإمام عليٌّ بانتزاعها منهم، ليعيدها إلي وضعها الطبيعي، لينتفع بها الفقراء والمساکين الذين «لاکو الصخر خبزاً»! فقال عليه السلام بهذا الموضع: «والله لو وجدتُه قد تُزوِّج به النساءُ، ومُلِکَ به الإماءُ لرددته، فإنَّ في العدل

[صفحه 189]

سَعَة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»[6] .

فما کان من بني أُميَّة، الذين هالهم هذا العدل، الا أن يحرِّض بعضهم البعض الآخر، فکتب عمرو بن العاص إلي معاوية بن أبي سفيان يقول: «ما کنت صانعاً فاصنع! إذ قَشَرک ابن أبي طالب کلَّ مالٍ تملکه، کما تُقشر من العصا لحاها»!

حتي تمخَّضت هذه الأحداث عن معرکتين الجمل وصفِّين، حيث لم يطيقوا عدل الإسلام الذي طبَّقه عليهم ابنُ أبي طالب عليه السلام!

وفي أصحاب الحزبين جاء قوله عليه السلام: «فلمَّا نهضتُ بالأمر نکثت طائفة ومرقت أُخري وقسط آخرون، کأنَّهم لم يسمعوا کلام الله تعالي يقول: (تِلْکَ الدَّارُ الاخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لأ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلأ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين)»[7] .



صفحه 186، 187، 188، 189.





  1. شرح النهج لابن أبي الحديد 7: 37.
  2. شرح ابن أبي الحديد7: 40، والآيتان علي التوالي من سورة الحجرات 49: 13ـ 17.
  3. أي لا اُقاربه هدي الدهر.
  4. نهج البلاغة، الخطبة: 126.
  5. شرح نهج البلاغة 7: 41ـ 42.
  6. نهج البلاغة، الخطبة: 15.
  7. سورة القصص: 83.