تولِّي الخلافة وسياسته في الإصلاح











تولِّي الخلافة وسياسته في الإصلاح



قتل عُثمان، ولم يکن ثمة فرصة لتعيين من يقوم بعده بالخلافة، فلا سقيفة ولا شوري! فکان من حقِّ الجماهير، ولأوَّل مرَّة في تأريخها، أن تطلق صوتها وترجع إلي رشدها.

فنهضت الجماهير عطشي تتسابق سباق الإبل إلي الماء، جاءوا دار الإمام عليٍّ عليه السلام حيث اعتزل قبل هلاک عُثمان، ولم يخرج من بيته، يطالبون أن يخرج إليهم ليبايعوه..

حتي وصف أمير المؤمنين عليه السلام هذا السيل العارم وإصرارهم علي البيعة بقوله: «فما راعني من الناس الا وهم رسلٌ إلي کعُرف الضبع، يسألونني أن أُبايعهم، وانثالوا عليَّ حتي لقد وُطئ الحسنان، وشُقَّ عطفاي».

ومضي يصف في خطبته هذه موقفه من الخلافة: «أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر ولزوم الحجَّة بوجود الناصر، وما أخذ الله علي أولياء الأمر الا يقرُّوا علي کظَّة ظالم أو سغب مظلومٍ، لألقيت حبلها علي غاربها، ولسقيت آخرها بکأس أوَّلها، ولألفوا دنياهم أزهد عندي من عفطة عنزٍ»[1] .

وتمَّت بيعته في الخلافة في يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي

[صفحه 180]

الحجَّة عام 35هـ، وقال عليه السلام يصف ذلک الأمر: «وبسطتهم يدي فکففتها، ومددتموها فقبضتها، ثُمَّ تداککتم عليَّ تداکَّ الإبل الهيم علي حياضها يوم وردها، حتي انقطعت النعل وسقط الرداء ووُطئ الضعيف..»[2] .

وعن أبي ثور ـ کما جاء في (الإمامة والسياسة) ـ أنَّه قال: «لمَّا کانت البيعة بعد مصرع عثمان خرجت في اثر عليٍّ عليه السلام والناس حوله يبايعونه، فدخل حائطاً من حيطان بني مازن، فألجأوه إلي نخلة وحالوا بيني وبينه، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراع الإمام، تختلف أيديهم علي يده، ثُمَّ أقبلوا به إلي المسجد الشريف، فکان أوَّل من صعد المنبر في المسجد طلحة وبايعه بيده، وکانت أصابعه شلاء، فتطيَّر منها عليٌّ عليه السلام وقال: «ما أخلقها أن تنکث»، ثُمَّ بايعه الزبير وأصحاب النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم وجميع من في المدينة من المسلمين»[3] .

بهذه اللهفة تمَّت أوَّل بيعة علي صعيد واسع، وصعد الخليفة الأول الحق بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المنبر الشريف بقبول الناس ورضاهم، لکنَّ الإمام عليَّاً عليه السلام لم يکن من أصحاب السلطة.. فلم يقبل بالخلافة الا بعد أن رأي أنْ لا مفرَّ من ذلک، وأنَّ مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن يمدَّ يده لتختلف عليه أيدي الناس المبايعة..

في هذا الجو المشحون بالفتن والحوادث بعد مقتل الخليفة وما خلَّف قتله من آثار ـ سنمرُّ عليها لاحقاً ـ في هذه الأجواء تمَّت البيعة للإمام عليه السلام،

[صفحه 181]

فقال ابن عبدالبر: «بويع لعليٍّ رضي الله عنه بالخلافة يوم قُتل عُثمان، فاجتمع علي بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلَّف عن بيعته نفرٌ منهم، فلم يهجهم ولم يُکرههم..»[4] .

وکان ممَّن تخلَّف عن بيعته يوم ذاک: حسَّان بن ثابت، وکعب بن مالک، وزيد بن ثابت، ومروان بن الحکم، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبدالله بن عمر، ومعاوية ومن معه في جماعة أهل الشام وآخرون[5] ، وعائشة بنت أبي بکر، زوج الرسول صلي الله عليه وآله وسلم حيث وقفت من الإمام عليٍّ أشدَّ المواقف العدائية التي سنقف عليها لاحقاً.

علي أي حال قد تمَّت البيعة المثالية، التي لم يشهد التأريخ مثلها علي جوانب صفحاته، بيعة ليس لها نظيرٌ قطُّ، اندفع کلُّ الناس يتسابقون أيُّهم يحوز الفضل قبل صاحبه.. ولم يفد معهم کلام ولا حجَّة، فکانوا مصرِّين علي بيعته حتي «وبلغ من سرور الناس بيعتهم إيَّاي أن ابتهج بها الصغير، وهَدَجَ إليها الکبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الکعاب..»[6] لا يرتضون له بديلاً حتي وإن أعلمهم بحقيقة الأمر وسياسته التي قد لا تُرضي الجمهور!

قد وضعهم أمام السياسة الواضحة؛ إذ قال لهم: «دعوني والتمسوا غيري، فإنَّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول.. وإنَّ الآفاق قد أغامت، والمحجَّة قد تنکَّرت..».

[صفحه 182]

وأضاف قائلاً: «واعلموا أنِّي إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغِ إلي قول القائل وعتب العاتب»[7] .

فاستجاب الناس طائعين إلي عرض أبواب السياسة التي سينتهجها، ووجد المسلمون أنفسهم أمام واقعٍ جديد وأحداث جديدة لا عهد لهم بها من قبل.

ذکر الشيخ المفيد خبراً عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: «جمع أمير المؤمنين عليه السلام الناس للبيعة، فجاء عبدالرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ فردَّه مرَّتين أو ثلاثاً ثُمَّ بايعه، وقال عند بيعته له: «ما يحبس أشقاها! فوالذي نفسي بيده لتُخضبن هذه من هذا» ووضع يده علي لحيته ورأسه عليه السلام، فلمَّا أدبر ابن ملجم عنه منصرفاً قال عليه السلام متمثِّلاً:


«أشدد حيازيمک للمــوت
فــإنَّ المـوت لاقيــک


ولا تجــزع من المـوت
إذا حــلَّ بـواديـــک


کمـا أضحکـک الدهــر
کذاک الدهـر يبکيک»»[8] .



صفحه 180، 181، 182.





  1. مقاطع من خطبته الشقشقية.
  2. نهج البلاغة، الخطبة: 229.
  3. الإمامة والسياسة1: 50، وانظر: الکامل في التاريخ3: 81ـ احداث سنة 35، البداية والنهاية 7: 227.
  4. تهذيب الکمال 13: 304.
  5. أنظر: الکامل في التاريخ 3: 82 حيث ذکر عشرة أشخاصٍ تخلفوا عن بيعة الإمام.
  6. نهج البلاغة، الخطبة: 229.
  7. نهج البلاغة، الخطبة: 92.
  8. إرشاد المفيد 1: 11. ونقله العلأَمة المجلسي في البحار 42: 192 و6.