في عهد عُثمان











في عهد عُثمان



دُفن عمر وتمَّت قصَّة الشوري، وزُفَّ عُثمان کما زُفَّ صاحباه من قبل، وبايعه الناس، وتصدَّر المنبر، منبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، ليخطب فيهم خطبته التي سيعلن فيها تعهده بالتزام سيرة الشيخين، وسنري فيما بعد کيف أنَّه خالف ما تعهد التزامه، حتي سيرة الشيخين في عدَّة أمور، وعطَّل بعض

[صفحه 170]

الواجبات حتي أصبح عهده عهد الفتن..

ومن أهمِّ الأمور التي انتهجها عُثمان في سياسته، والتي فتحت أبواباً من الفتن واسعة:

1ـ أحاط نفسه بأزلام بني أُميَّة، وتربَّع علي العرش يهب أموال المسلمين لرجالات عمومته بني أُميَّة، فکانوا المقرَّبين منه، بحيث ترک مشورة کبار الصحابة، ولم يستعمل أحدهم علي أمر من أمور المسلمين واستغني برأيه ورأي مروان، والأنکي من کلِّ ذلک أنَّه ألحق الضرر والضرب ـ وحتي الموت ـ بکبار صحابة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وسجن آخرين. فضرب عمَّاراً وفتق بطنه، وسيَّر أبا ذرٍّ إلي الربذة، وسيَّر عامر بن قيس من البصرة إلي الشام! وغير ذلک من الأمور الشنيعة، حتي غلب علي عهده التسلُّط والاثرة وجمع الأموال، واکتفي برأي أصحاب الحيلة والدهاء، من ذوي قرباه.

2ـ استبدال الولاة الذين عيَّنهم عمر، بولاة جدد من بني أُميَّة من أصحاب المطامع، وليس لأحدهم دين وازع أو سلطان رادع، ولم يکن همُّ أحدهم سوي جمع الأموال والتربُّع علي عرش الملک!

فجمع الشام کلَّه لابن عمِّه معاوية، وعبدالله بن أبي سرح ـ المرتدُّ، الذي أمر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بقتله ولو وجد متعلِّقاً بأستار الکعبة! ـ علي مصر، وهو أخوه من الرضاع، وفي الکوفة ـ أخوه لاُمِّه ـ الوليد بن عقبة، وفي البصرة ابن عمِّه سعيد بن العاص، وولَّي ابن خاله عبدالله بن عامر علي خراسان، وفي المدينة المنوَّرة «مقرُّ الخلافة» کان مروان بن الحکم

[صفحه 171]

ـ طريد رسول الله ولعينه ـ وزير الخليفة ومستشاره، فهو ابن عمِّه وکاتبه.

وکلُّهم من طغمة بني أُميَّة خاصَّة من مسلمة الفتح «الطلقاء، والمؤلَّفة قلوبهم» حتي أصبحت أموال الدولة والمسلمين متاعاً خاصاً لهم، وظنُّوا أنَّ الخلافة وراثةً لهم، کما قال أبو سفيان: «يا بني أُميَّة تلقَّفوها تلقُّف الکرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لکم، ولتصيرنَ إلي صبيانکم وراثةً»!

فهؤلاء هم عمال عُثمان الذين لا يريد أحدهم سوي أن يصبح جبَّاراً في الأرض أو ملکاً يُطاع أو يُسجد له!!

وقد کانت هذه المفارقات وغيرها السبّب لثورة الناس ضدّه، فسعي الأمام عليه السلام للإصلاح وإخماد الفتنة، وکم ذکّره بالله والدين، وبحقوق المسلمين، وکان مما قال له مرةً: «والله لو ظلم عامل من عمّالک حيث تغرب الشمس لکان اثمه شرکاً بينه وبينک»[1] .

مهَّدت إلي ظهور فتن وأزمات وکم سعي الامام عليه السلام ومن معه من الصحابة في الإصلاح ولم يستجب عثمان ومن حوله لدعوته، حتي فلت الأمر من يده، لا سيّما وأنّ بعض أکابر الصحابة کانوا يساندون الثائرين علي عثمان والمعترضين بشدة ويؤلّبون الجماهير ضده منهم عائشة التي کانت تقول: اقتلوا نعثلاً فقد کفر. وطلحة الذي کان يکاتب أهل البصرة يحرِّضهم علي النهوض لقتل عُثمان[2] وعبدالرحمن بن عوف الذي قال

[صفحه 172]

لعثمان: «لِمَ فررتَ يوم أُحد، وتخلَّفت عن بدر، وخالفت سُنَّة عمر؟»[3] .

ولمَّا طالبت الجماهير المنتفضة عُثمان بعزل الولاة الفاسدين، واستبدالهم بولاةٍ صالحين، أبي ذلک، فعزل أهل الکوفة سعيد بن العاص الأموي ورشحوا أبا موسي الأشعري، لکن عثمان أقرّ سعيداً ولم يعزله، وهکذا کان الأمر في بعض الولايات الاسلامية الاخري بسبب ما لاقاه الناس من الولاة من جورٍ وفساد، وحينئذٍ عادوا وطلبوا من عثمان، أن يعزل نفسه، حينها قال عُثمان: «ما کنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله»[4] ، فجعل أمر الخلافة هبةً من الله تعالي، ولا يمکن له أن ينزعها، وليس من حقِّ الأُمَّة أيضاً أن تثور عليه وتنزع الخلافة منه!

رأي عُثمان أنَّ الأُمَّة کلَّها ضدَّه وسوف لا تترکه حتي يستجيب لارادتها، ولم يرَ ناصحاً في هذه الأيَّام الشديدة من حياته غير الإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، حينها أجتمع الناس إلي الإمام عليه السلام وبيَّنوا له فساد الأمر بيد عُثمان، فنهض الإمام عليه السلام ليکلِّم الخليفة وينصحه، فقال له: «إنَّ الناس ورائي، وقد استسفروني بينک وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لک! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلُّک علي أمرٍ لا تعرفه، إنَّک تعلم ما نعلم، وما سبقناک إلي شيءٍ فنُخبرک عنه، ولا خلونا بشيء فنبلِّغکه، وقد رأيتَ کما رأينا، وسمعتَ کما سمعنا، وصحبت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم کما صحبنا..

وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطَّاب بأولي بعمل الحقِّ منک، وأنت

[صفحه 173]

أقرب إلي أخي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وشيجة رحمٍ منهما، وقد نلتَ من صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسک، فإنَّک والله ما تُبصَّر من عميً، ولا تُعلَّم من جهلٍ، وإنَّ الطرق لواضحة، وإنَّ أعلام الدين لقائمة..

فاعلم أنَّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادل، هُدِي وهدي، فأقام سُنَّةً معلومة، وأمات بدعةً مجهولة، وإنَّ السنن لنيِّرةٌ لها أعلام، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلام. وإنَّ شرَّ الناس عند الله إمامٌ جائرٌ، ضلَّ وضُلَّ به، فأمات سُنَّةً مأخوذةً، وأحيا بدعةً متروکة، وإنِّي سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: يؤتي يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقي في نار جهنَّم فيدور فيها کما تدور الرحي، ثُمَّ يرتبط في قعرها..

وإنِّي أُنشدک الله الا تکون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّه کان يُقال: يُقتل في هذه الأُمَّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلي يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثُّ الفتن فيها، فلا يُبصرن الحقَّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تکوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقک حيث شاء بعد جلال السنِّ وتقضِّي العمر»!

فقال له عُثمان: «کلِّم الناس فيّ أن يؤجِّلوني حتي أخرج إليهم من مظالمهم».

فقال عليه السلام: «ما کان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرک إليه»[5] مة.

فکلَّمهم عليٌّ، فرجع المصريون إلي مصر، ولکنَّ تأخَّر عُثمان عن

[صفحه 174]

تنفيذ ما وعدهم به، وکان الذي صرفه عن ذلک مروان بن الحکم، إذ قال لعثمان: تکلَّم وأعلِمِ الناس أنَّ أهل مصر قد رجعوا، وأنَّ ما بلغهم عن إمامهم کان باطلاً، قبل أن يجيء الناس إليک من أمصارهم، ويأتيک ما لا تستطيع دفعه! ففعل عُثمان ذلک[6] .

فثارت الفتنة من جديد، وانتفضت الجموع الغاضبة، فتشبَّث عُثمان مرَّةً أُخري بعليٍّ عليه السلام بعد أن رجع المصريون وحاصروه، فقال له: «يا ابن عمِّ، إنَّ قرابتي قريبة، ولي عليک حقٌّ عظيم، وقد جاء ما تري من هؤلاء القوم، وهم مُصبِّحيَّ، ولک عند الناس قدر وهم يسمعون منک، وأُحبُّ أن ترکب إليهم فتردَّهم عنِّي».

فقال له عليٌّ عليه السلام: «علي أيِّ شيءٍ أردُّهم عنک»؟

قال: «علي أن أصير إلي ما أشرت إليه ورأيته لي».

فقال عليٌّ: «إنِّي قد کلَّمتک مرَّةً بعد أُخري، فکلُّ ذلک نخرج ونقول، ثُمَّ ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبدالله بن سعد، فإنَّک أطعتهم وعصيتني».

قال عُثمان: «فأنا أعصيهم وأُطيعک».

فأمر الناس، فرکب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً، فأتي المصريِّين فکلَّمهم، فذکر لهم ما وعد به عُثمان من العمل بالحق وإرضائهم[7] .

[صفحه 175]

ولمَّا عاد الإمام عليٌّ عليه السلام من مهمَّته في تبليغ الوعود، قال لعثمان: «تکلَّم کلاماً يسمعه الناس منک، ويشهدون عليک، ويشهد الله علي ما في قلبک من النزوع والإنابة، فإنَّ البلاد قد تمخَّضت عليک، فلا آمن أن يجيء رکب آخرين من الکوفة، فتقول: يا عليُّ ارکب إليهم، ولا أقدر أن أرکب إليهم ولا أسمع عذراً، ويقدم رکب من البصرة، فتقول: يا عليُّ ارکب إليهم، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمک واستخففت بحقِّک».

فخرج عُثمان فخطب الناس، فقال بعد الحمد والثناء: أمَّا بعد أيُّها الناس، فوالله ما عاب من عاب منکم شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً الا وأنا أعرفه، ولکنِّي فتنتني نفسي وکذَّبتني وضلَّ عنِّي رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول: «من زلَّ فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادَّ في الهلکة، إنَّ من تمادي في الجور کان أبعد من الطريق»، فأنا أوَّل من اتَّعظ، واستغفر الله ممَّا فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافکم فليروني رأيهم، فوالله لئن ردَّني الحقُّ عبداً لأستنَّ بسُنَّة العبد، ولأذلَّنَّ ذلَّ العبد، ولأکوننَّ کالمرقوق، إن مُلِکَ صبر، وإن عُتِقَ شکر، وما عن الله مذهب الا إليه، فلا يعجزنَّ عنکم خيارکم أن يدنوا إليَّ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي[8] ، فوالله لأعطينَّکم الرضا، ولأُنحينَّ مروان وذويه ولا أحتجب عنکم[9] .

فرقَّ الناس له، وبکوا، وبکي هو أيضاً..

[صفحه 176]

ولمَّا نزل عُثمان وعاد إلي بيته عاب عليه مروان إقراره بالخطأ، وما أعطاهم من الوعد بالإصلاح والصلاح، ولم يکن من عُثمان الا أن يرکن إلي کلامه ويقول: أُخرج إلي الناس فکلِّمهم، فإنِّي أستحي أن أُکلِّمهم! وخرج مروان إلي الناس فقال لهم: ما شأنکم؟ قد اجتمعتم کأنَّکم جئتم لنهب! شاهت الوجوه! جئتم تريدون أن تنزعوا ملکنا من أيدينا! أُخرجوا عنَّا.. ارجعوا إلي منازلکم، فإنَّا والله ما نحن بمغلوبين علي ما في أيدينا[10] .

ولمَّا بلغ عليَّاً عليه السلام هذا الکلام، وأنّ عُثمان أصرَّ علي سياسته التي اختطَّها مروان وغيره، ولم يستطع أن يغيِّر من موقفهم، قال: «أي عباد الله، يا للمسلمين! إنِّي إن قعدت في بيتي قال لي: ترکتني وقرابتي وحقِّي، وإنِّي إن تکلَّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان».. وقام مغضباً حتي دخل علي عُثمان فقال له: «أما رضيت من مروان ولا رضي منک، الا بتحريفک عن دينک وعن عقلک.. والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيمُ الله إنِّي لأراه يوردک ولا يُصدرک! وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتک، أذهبت شرفک، وغُلبت علي رأيک»[11] .

وندم عُثمان علي فعله، فبعث إلي عليٍّ عليه السلام يستصلحه، فقال عليٌّ عليه السلام: «أخبرته إنِّي غير عائد».. أمَّا الناس فقد حاصروا عُثمان في بيته ومنعوا عنه الماء.. فاشتدَّ عليه الأمر، وضلَّ حائراً لا يلوي فعل شيء، الا أن يغلق عليه بابه وينتظر ما سيحدث!

[صفحه 177]

لکنَّ أمير المؤمنين عليه السلام أمر ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بحمل سيفيهما والذود عن عُثمان يمنعان الناس عنه..

وذهب عليه السلام إلي طلحة ـ وکان هو الذي قد منع الماء عن عُثمان مع جماعة حوله ـ متناسياً کلَّ ما حدث من عُثمان، فقال له: «يا طلحة، ما هذا الأمر منک الذي وقعت فيه»؟!

قال: «يا أبا الحسن، بعد ما مسَّ الحزام الطُّبْيَين»[12] .

فقدم الإمام عليه السلام بيت المال، وکسر الباب وأعطي الناس، فانصرفوا عن طلحة حتي بقي وحده! فسُرَّ عُثمان بذلک ودخلت عليه الروايا بالماء.

ونقل الطبري وابن الأثير في تاريخيهما[13] ، قول عُثمان بشأن طلحة: «هذا ما أمر به طلحة بن عبدالله، اللَّهمَّ اکفني طلحة، فإنَّه حمل عليَّ هؤلاء وألَّبهم عليَّ، والله إنِّي لأرجو أن يکون منها صفراً، وإنَّ يُسفک دمه! إنَّه انتهک منِّي ما لا يحلُّ له!».

أمَّا المصريون الذين کلَّمهم عليٌّ عليه السلام ورجعوا، فبينما هم في بعض الطريق رأوا راکباً أمره مريب، فأخذوه وفتَّشوه، فإذا هو غلام عُثمان يحمل کتاباً بختم عُثمان الي عبدالله بن سعد أن يفعل بهم ويفعل! وکان مروان هو الذي زوَّر هذا الکتاب[14] .

فرجعوا وشدَّدوا الحصار علي عُثمان، بعد أن خيَّروه بين ثلاث: أن

[صفحه 178]

يخلع عمَّاله الذين شکتهم الناس، أو يخلع نفسه، أو يقتلوه!

وکأنَّه اختار لنفسه القتل، حيث قال: «ما کنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله عزَّ وجلَّ».

[صفحه 179]



صفحه 170، 171، 172، 173، 174، 175، 176، 177، 178، 179.





  1. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 9: 15.
  2. الکامل في التاريخ 3: 109.
  3. سير اعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون): 186.
  4. تاريخ الطبري 4: 371.
  5. نهج البلاغة، الخطبة: 164.
  6. الکامل في التاريخ 3: 54، تاريخ الطبري 4: 360.
  7. الکامل في التاريخ 3: 53ـ 54.
  8. تاريخ الطبري 4: 360ـ 361.
  9. الکامل في التاريخ 3: 55.
  10. الکامل في التاريخ 3: 56، البداية والنهاية 7: 193.
  11. تاريخ الطبري 4: 363.
  12. الکامل في التاريخ 3: 56. وقوله «مسّ الحزام الطُّبْيَين» کناية عن المبالغة في تجاوز حدّ الشرّ والأذي، لأن الحزام إذا بلغ الطبيين فقد انتهي إلي أبعد غاياته. فالطُّبي حلمة الضرع، لسان العرب (طبي).
  13. تاريخ الطبري: 4: 379، الکامل في التاريخ 3: 167.
  14. انظر: الخلفاء الراشدون من تاريخ الاسلام للذهبي: 458.