قصة الشوري











قصة الشوري[1]



.

لمَّا طُعنَ عمر بن الخطاب، أُخذ ودماؤه تسيل منه، قيل له وهو واهن القوي: لو استخلفت علي الناس، يا أمير المؤمنين! فقال: إن أستخلف، فقد استخلف مَنْ هو خيرٌ منِّي، وإن أترک فقد ترک مَنْ هو خيرٌ منِّي ـ يشير إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأبي بکر ـ وأراد من ذلک أن يکون الأمر للمسلمين شوري، فظهر مبدأ الشوري لأوَّل مرَّة علي لسانه في خطبته الشهيرة التي قال فيها: «فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرَّة أن يُقتلا»[2] .

ثُمَّ لم يلبث مليَّاً حتي نقض قوله، بقوله: «لو کان أبو عبيدة حيَّاً لولَّيته!

[صفحه 163]

لو کان معاذ بن جبل حيَّاً لولَّيته! لو کان سالم مولي أبي حذيفة حيَّاً لولَّيته»![3] ذلک لأن تمسکه بالشوري کان له سبب مثير!!

ففي موسم الحج من تلک السنة جاء عبدالرحمن بن عوف إلي ابن عباس، فقال له: لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أن فلاناً «قال: لو قد مات عمر لبايعت فلاناً» فما کانت بيعة أبي بکر إلاّ فلتة.. فهمّ عمر أن يخطب الناس رداً علي هذا القول فنهيته لاجتماع الناس کلهم في الحج وقلت له: إذا عدت المدينة فقل هناک ما تريد، فإنه أبعد عن إثارة الشغب.

فلما رجعوا من الحج إلي المدينة قام عمر في خطبته المذکورة.

قال ابن حجر العسقلاني: وجدته في الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري، بالإسناد المذکور في الأصل، ولفظه قال عمر: بلغني أن الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا علياً.. الحديث[4] .

اختار عمر ستة من الصحابة، زعم: «أنَّ رسول الله کان راضياً عن هؤلاء الستَّة» وهم: عُثمان بن عفَّان وعليُّ بن أبي طالب، وطلحة وسعد بن أبي وقَّاص والزبير وعبدالرحمن بن عوف قال: «وقد رأيت أن أجعلها شوري بينهم ليختاروا لأنفسهم».

[صفحه 164]

واستدعي إليه أبا طلحة الأنصاري فقال له: يا أبا طلحة، إنَّ الله طالما أعزَّ بکم الإسلام، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفکم، وخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيتٍ واحد، وقم علي رؤوسهم، فإنَّ اجتمع خمسة وأبي واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتَّفق أربعة وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة فانظر الثلاثة الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمَّا اجتمع فيه الناس، وإن مضي الستَّة ولم يتَّفقوا علي أمر، فاضرب أعناق الستَّة، ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم..

هذا هو مبدأ الشوري الذي أراده عمر، ولنري کيف تمَّ الإتِّفاق..

ولمَّا خرج عليٌّ عليه السلام والجماعة من البيت بانتظار الموعد المعيَّن، ما لبث أن جاءه عمُّه العبَّاس يسأله عمَّا جري، فقال: «عدلتْ عنَّا»! فقال: وما علمک؟

قال: «قرن بي عُثمان، وقال: کونوا مع الأکثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فکونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمِّه، وعبدالرحمن صهر عُثمان لا يختلفون، فيولِّيها أحدهما الآخر، فلو کان الآخران معي لم ينفعاني».. ومضي يقصُّ علي عمِّه أحداث الشوري وتفاصيلها، حتي ملکته الدهشة لما سمع.. فقال له العبَّاس: إحذر هؤلاء الرهط، فإنَّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتي يقوم به غيرنا، وأيم الله لا يناله الا بشرٌ لا ينفع معه خير! فقال عليٌّ عليه السلام: «أمّا لئن بقي عُثمان لأذکِّرنَّه ما أتي، ولئن مات ليتداولُنَّها بينهم، ولئن فعلوا لتجدنِّي حيث

[صفحه 165]

يکرهون»[5] .

ولمَّا اجتمعوا تکلَّم أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: «الحمد لله الذي بعث محمَّداً منَّا نبيَّاً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوَّة، ومعدن الحکمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حقٌّ إن نُعْطَه نأخذه، وإن نُمْنَعْه نرکبْ أعجاز الإبل ولو طال السُّري، لو عهد إلينا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتي نموت، لن يسرع أحد قبلي إلي دعوة حقٍّ وصلة رحم، لا حول ولا قوَّة الا بالله، اسمعوا کلامي وعوا منطقي، عسي أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجمع تُنتضي فيه السيوف، وتُخان فيه العهود، حتي تکونوا جماعة، ويکون بعضکم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة» ثُمَّ قال:


فإن تکُ جاسمٌ هلکــتْ فإنِّي
بما فعلتْ بنو عبد بن ضخمِ


مطيعٌ في الهواجرِ کلَّ عيٍّ
بصيرٌ بالنَّوي مـن کلِّ نجمِ[6] .


ومهما کان الحال، فقد جاء في سائر التواريخ أنَّ أوَّل عمل قام به طلحة أن أخرج نفسه منها، ووهب حقَّه فيها لعثمان بن عفَّان، کرهاً منه لعليِّ بن أبي طالب عليه السلام، وأدرک الزبير النوايا المبيتة من طلحة، فثارت في نفسه نزعة القرابة التي تشدُّه إلي عليٍّ عليه السلام، فقال: وأنا أُشهدکم نفسي أنِّي قد وهبت حقِّي في الخلافة لعليِّ بن أبي طالب، فوقف سعد بن أبي وقَّاص وقال: لقد وهبت حقِّي لعبد الرحمن بن عوف، «وبقي في الساحة ثلاثة کلُّ واحدٍ منهم يمثِّل اثنين» فقال عبدالرحمن لعثمان وعليٍّ عليه السلام: أيُّکما يخرج منها للآخر؟ فلمَّا

[صفحه 166]

لم يجد منهما جواباً، أخرج نفسه منها علي أن يجعلها في أفضلهما.

وعرض علي کلٍّ منهما أن يتولَّي الأمر من يؤثر الحقَّ ولا يتَّبع الهوي، ولا يخصُّ ذا رحمِ ولا يألو الأُمَّة نصحاً، فوافق کلٌّ منهما علي هذه الشروط.. لکنَّه ـ وبعد أن أحرجه الإمام بقبول الشروط ـ خلا عبدالرحمن بسعد بن أبي وقَّاص، فأدرک عليٌّ عليه السلام أنَّهما إنَّما يريدان مخرجاً يسهِّل لهما أن يُعطوا الخلافة لعثمان؛ فقال أمير المؤمنين لسعد: «(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالاَرْحَام)[7] ، أسألک برحم ابني هذا من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وبرحم عمِّي حمزة منک أن لا تکون ظهيراً لعبد الرحمن»..

ويبدو من هذا الاتِّفاق أنَّهم خرجوا بشرط جديد يُحرِج عليَّاً عليه السلام، ولا يمکن له أن يقبله، وبذلک تکون البيعة لعثمان بن عفَّان، فقال عبدالرحمن لعليٍّ عليه السلام: عليک عهد الله وميثاقه، لتعملن بکتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة الشيخين من بعده، قال الإمام: «أعمل بکتاب الله وسُنَّة نبيِّه وبرأيي، فيما لا نصَّ فيه من کتابٍ أو سُنَّة»، ودعا عُثمان فقال له مثل ما قال لعليٍّ عليه السلام فوافق عليها، وقال: نعمل نعمل، فرفع رأسه إلي سقف المسجد، ويده في يد عُثمان فقال: اللَّهمَّ اسمع واشهد، اللَّهمَّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلک في رقبة عُثمان، فبايعه، وبهذا النحو الذي شهدناه تمَّت البيعة لعثمان، وحسب التخطيط الذي أراده عمر بن الخطَّاب.

وعقّب الأُستاذ هاشم معروف الحسني علي قصَّة الشوري هذه بقوله: «أقول ذلک وأنا علي يقين بأنَّ عليَّاً لو وافقهما علي الشرط الأخير، لوضعا

[صفحه 167]

له شرطاً آخر، وهکذا حتي ينسحب منها، وتتمَّ لابن عفَّان بلا منازع».

حتماً، فهذه ليست أوَّل مؤامرة تظاهروا بها علي آل بيت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم کما قال أمير المؤمنين عليه السلام حينها: «ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَي مَا تَصِفُون)، والله ما وليتَ عُثمان إلا ليردَّ الأمر إليک، والله کلُّ يومٍ في شأن»! فقال عبدالرحمن: يا عليُّ، لا تجعل علي نفسک حجَّةً وسبيلاً، فخرج عليٌّ عليه السلام وهو يقول: «سيبلغ الکتاب أجله»، فقال المقداد: يا عبدالرحمن، أما والله لقد ترکته، وإنَّه من الذين يقضون بالحقِّ وبه يعدلون، فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين. قال: إن کنتَ أردتَ الله فأثابک الله ثواب المحسنين.

ثم قال المقداد: ما رأيتُ مثل ما أتي إلي هذا أهل البيت بعد نبيِّهم، إنِّي لأعجب من قريش أنَّهم ترکوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنَّ رجلاً أقضي بالعدل ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعواناً عليه!

فقال عبدالرحمن: يا مقداد، اتِّق الله، فإنِّي خائفٌ عليک الفتنة.

فقال رجل للمقداد: رحمک الله، مَن أهل هذا البيت، ومن هذا الرجل؟

قال: أهل البيت بنو عبدالمطَّلب، والرجل عليُّ بن أبي طالب.

فقال عليٌّ عليه السلام: «إنَّ الناس ينظرون إلي قريش، وقريش تنظر بينها فتقول: إن وُلِّيَ عليکم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما کانت في غيرهم تداولتموها بينکم».

وقد شهد أبو الطفيل رضي الله عنه حادثة الشوري بما شهده وسمعه، فقال: کنت علي الباب يوم الشوري، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليَّاً عليه السلام

[صفحه 168]

يقول: «بايع الناس لأبي بکر، وأنا والله أولي بالأمر منه وأحقُّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس کفَّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف، ثُمَّ بايع الناس عمر وأنا والله أولي بالأمر منه، وأحقُّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس کفَّاراً يضرب بعضم رقاب بعضٍ بالسيف، ثُمَّ أنتم تريدون أن تبايعوا عُثمان! إذاً أسمع وأُطيع»[8] .

ولمَّا عزموا علي البيعة لعثمان، قال الإمام عليٌّ عليه السلام: «أُنشدکم الله، أفيکم أحد آخي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بينه وبين نفسه غيري؟» قالوا: لا. قال: «أفيکم أحدٌ قال له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من کنتُ مولاه فهذا مولاه، غيري؟» قالوا: لا.

قال: «أفيکم أحدٌ قال له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أنت منِّي بمنزلة هارون من موسي غيري؟» قالوا: لا.

قال: «أفيکم من أؤتمن علي سورة براءة، وقال له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنَّه لا يؤدِّي عنِّي الا أنا أو رجل منِّي، غيري؟» قالوا: لا.

قال: «ألا تعلمون أنَّ أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فرُّوا عنه في مأقطِ الحرب في غير موطن، وما فررتُ قطُّ؟» قالوا: بلي.

قال: «ألا تعلمون أنِّي أوَّل الناس إسلاماً؟» قالوا: بلي.

قال: «فأيُّنا أقرب إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نسباً؟» قالوا: أنت.

فقطع عليه عبدالرحمن بن عوف کلامه، وقال: يا عليُّ، قد أبي الناس الا عُثمان، فلا تجعلنَّ علي نفسک سبيلاً!

ثُمَّ توجَّه عبدالرحمن إلي أبي طلحة الأنصاري، فقال له: يا أبا طلحة،

[صفحه 169]

ما الذي أمرک عمر؟ قال: أن أقتل من شقَّ عصا الجماعة!

فقال عبدالرحمن لعليٍّ: بايع إذن، والا کنتَ متَّبعاً غير سبيل المؤمنين!! وأنفذنا فيک ما أُمرنا به!!

فقال عليٌّ عليه السلام کلمته الشهيرة: «لقد علمتم أنِّي أحقُّ بها من غيري، ووالله لأُسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يکن فيها جورٌ الا عليَّ خاصَّةً؛ إلتماساً لأجر ذلک وفضله، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»[9] .

کان هذا آخر ما قاله الإمام عليٌّ عليه السلام يوم الشوري، فهل تسمَّي هذه شوري؟ أم غلبة بالسيف؟!

وختاماً من المناسب أن نذکر هذا المقطع من الخطبة المعروفة بالشقشقية والذي يصف فيه موقفه من هذه الشوري، فيقول: «فصبرتُ علي طول المدَّة، وشدَّة المحنة.. حتي إذا مضي لسبيله، جعلها في جماعة زَعَم أنِّي أحدهم، فيا لله وللشوري، متي اعترض الريبُ فيَّ مع الأوَّل منهم حتي صرتُ أُقرنُ إلي هذه النظائر!»[10] .



صفحه 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169.





  1. عن: سير أعلام النبلاء 2: 92 وما بعدها، الإصابة 2: 508 ترجمة الإمام عليِّ بن أبي طالب، الکامل في التاريخ 2: 459، طبقات ابن سعد 3: 260...
  2. صحيح البخاري 6442:6، مسند أحمد 1: 56.
  3. الکامل في التاريخ 2: 459، طبقات ابن سعد 3: 343.
  4. مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 337، القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10: 19.
  5. الکامل في التأريخ، ابن الأثير 2: 461 ط. دار الکتب العلمية.
  6. تاريخ الطبري 4: 237، الکامل في التاريخ 2: 466.
  7. سورة النساء: 1.
  8. کنز العمَّال 5: 724 و14243.
  9. شرح ابن أبي الحديد 6: 166.
  10. نهج البلاغة، الخطبة 3.