في عهد عمر بن الخطَّاب











في عهد عمر بن الخطَّاب



«فواعجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ کلمها، ويخشن مسُّها، ويکثر العثار فيها والاعتذار منها»[1] !!

نعم عجباً، فبالأمس کان «الشيخ» يرجع إلي علي عليه السلام في شتَّي الأمور ليلتمس منه الصواب، حتي کان يقول له: «لازلت موفَّقاً يا ابن أبي طالب» وکان يستقيل الخلافة في حياته إذ کان يقول: «أقيلوني أقيلوني فلست بخيرکم» فکيف ـ والحال هذه ـ يعقدها لعمر بعد وفاته...!

وبلا شکٍّ فأنَّ هناک سابق اتِّفاق بينهما ـ بين الخليفة والوزير! ـ فقد کرهوا أن تجتمع النبوَّة والخلافة في بيت واحد! هذا القول قد نطق به أحدهم بأعلي صوت وأصرح بيان!

وأخيراً ـ وکما هو منتظر ـ عهد أبو بکر بالخلافة من بعده إلي عمر بن الخطَّاب وکان عُثمان بن عفَّان من أشد أنصار هذا الاتِّجاه؛ لأنَّه شريک الدرب القيادي کما سيتَّضح قريباً!!

وبهذا الحال تمَّت الخلافة لعمر بن الخطَّاب، وتحقَّقت ضالَّة قريش المنشودة في إبعاد أهل بيت النبوَّة الذين ظهر منهم شعاع الإسلام.. ويا ليتهم لم ينبسوا بکلمة واحدة تدين غصبهم لحقِّ أهل بيت النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم، لکنَّهم وللأسف الشديد اعترفوا بکلِّ نواياهم المبيّتة..

مضي عمر بن الخطَّاب في سياسته علي نفس الخطِّ الذي مشي به

[صفحه 157]

أبوبکر، حذراً کما أوصاه صاحبه: «إحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم» وکأنِّي أراه لا يقصد الا عليَّ بن أبي طالب!

وشدَّد عمر علي هؤلاء النفر، حسب ما أوصي إليه ابن أبي قحافة، فأوَّل ما بادر الي فعله: حبس هؤلاء الثَّلة المؤمنة في المدينة ولا يسمح لهم أيضاً أن يقاتلوا الکفَّار مع المسلمين کي لا تنتفخ أوداجهم! ويقول لمن يلتمس منه الجهاد: لقد کان لک في غزوک مع رسول الله ما يکفيک، نعم ما يکفيه من الثواب والشرف!! عجباً وألف عجب!!

نرجع القول مرَّة أُخري: قد اعترفوا بحقِّ عليٍّ عليه السلام في الخلافة، فهذا عمر بن الخطَّاب، في حوار مع ابن عبَّاس دار بينهما، يعترف بظلامة ابن أبي طالب.. وفي الحقيقة نلتمس من جواب ابن الخطَّاب علي أسئلة ابن عبَّاس تبريرات عديدة في إقصاء عليٍّ عليه السلام عن حقِّه في خلافة الرسول.

يقول عمر أمام ابن عبَّاس: «لقد کان من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم في أمره ذروٌ من قول، لا يُثبت حجَّةً ولا يقطع عذراً، ولقد کان يربعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه، فمنعتُ من ذلک..» وکذا أيضاً في حديث ابن عبادة[2] .

وفي عدَّة مواضع مع ابن عبَّاس:

قال ابن عبَّاس: إنِّي لأُماشي عمر في المدينة، إذ قال لي: يا ابن عبَّاس، ما أري صاحبک الا مظلوماً.

[صفحه 158]

فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها. فقلت له: يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته! فانتزع يده من يدي، ومضي يهمهم ساعةً، ثُمَّ وقف فلحقته، فقال: يا ابن عبَّاس، ما أظنُّهم منعهم عنه الا أن استصغره قومه!

فقلت في نفسي: هذه شرٌّ من الأولي، فقلت: والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبک[3] .

وفي مرَّةٍ أُخري يقول لابن عبَّاس: أتدري ما منع الناس منکم؟

قال ابن عبَّاس: لا.

قال عمر: لکنِّي أدري.

قال ابن عبَّاس: وما هو، يا أمير المؤمنين؟

قال: کرهت قريش أن تجتمع فيکم النبوَّة والخلافة فتجخفوا جخفاً[4] ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت فأصابت!

قال ابن عبَّاس: أيُميط عنِّي أمير المؤمنين غضبه، فيسمع؟

قال: قل ما تشاء.

قال: أمَّا قولک: إنَّ قريشاً کرهت، فإنَّ الله تعالي قال لقوم: (ذلِکَ بِأنَّهُمْ کَرِهُوا مَا أنزَلَ اللهُ فَأحْبَطَ أعْمَالَهُم) وأمَّا قولک: إنَّا کنَّا نجخف، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولکنَّا قوم أخلاقنا مشتقَّة من أخلاق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الذي قال فيه الله تعالي: (وَإنَّکَ لَعَلَي خُلُقٍ عَظِيم) وقال له: (وَاخْفِضْ جَنَاحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِين).

[صفحه 159]

وأمَّا قولک: فإنَّ قريشاً اختارت، فإنَّ الله تعالي يقول: (وَرَبُّکَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا کَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة) وقد علمت يا أمير المؤمنين أنَّ الله اختار من خلقِه لذلک مَنْ اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفِّقت وأصابت.

ثُمَّ قال: وأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقِّ من هو، ألم تحتجَّ العرب علي العجم بحقِّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، واحتجَّت قريش علي سائر العرب بحقِّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم؟! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش[5] .

وأمثال ذلک من الأعذار التي کان يلتمس منها ابن الخطَّاب سبباً يبرِّر موقفهم من الإمام عليٍّ عليه السلام، وهي کثيرة يطول بذکرها المقام، وقد عدَّها سبباً في إقصاء الإمام عليٍّ من الخلافة[6] .

وبعد مدَّةٍ وجيزة واصل عمر حروب الفتوح، فبعث المثني بن حارثة الشيباني في مواصلة تلک الحروب في نواحي العراق، فهزمهم الفرس ففرُّوا إلي الأطراف، فوقف عمر من أمره حائراً، وأخذ يستشير الصحابة في أن يخرج هو بنفسه في مواصلة الحرب..

ولمَّا استشار عليَّاً عليه السلام نهاه عن الخروج قائلاً: «نحن علي موعدٍ من الله، والله منجزُ وعده، وناصر جنده، ومکان القيِّم بالأمر مکانُ النظَام من الخرز، يجمعه ويضمُّه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب، ثُمَّ لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن کانوا قليلاً، فهم کثيرون بالإسلام،

[صفحه 160]

عزيزون بالإجتماع، فکن قُطباً، واستدر الرحا بالعرب.

إنَّک إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليک العرب من أطرافها وأقطارها، حتي يکون ما تدع وراءک من العورات أهمُّ إليک ممَّا بين يديک. إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليک غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيکون ذلک أشدُّ لَکَلِبهم عليک، وطمعهم فيک»[7] .

وبحقٍّ إنَّ کلَّ کلمة من کلمات هذه الخطبة تعکس لنا عظمة علم الإمام عليه السلام.. وتنمُّ عن شخصيته المجلَّلة بالکمال والحکمة والصدق، وبحقٍّ إنَّه کما قيل: «هو القرآن الناطق، وما بين الدفَّتين القرآن الصامت» فهو عليه السلام لم يأخذ الا عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فهو معلِّمه الأوَّل والأخير الذي يستقي کماله من الله عزَّ وجلَّ..

فاستبشر عمر بهذه النصيحة العظيمة وعمل بها، وکان باباً للفتوح وقنطرة لانتصارات عدَّة..

أمَّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد قنع من الدنيا أن لا يتکلَّم الا بلسان البررة الأطهار، ليقدِّم للمسلمين، ويحافظ علي الشريعة المطهرة، ويمنع من مخالفتها قولاً أو فعلاً، في أکثر الموارد التي أوضح فيها المشکلات علي عمر وحال دون تطبيق أحکام منها علي خلاف الکتاب والسنة، بحيث لو سکت لکانت أحکاماً تتّبع، حتي قال فيه عمر: «لولا عليٌّ لهلک عمر»، «أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن».

کذا رضي لنفسه أن يکون کغيره من الناس، متجاهلاً حقَّه، من أجل

[صفحه 161]

حفظ بيضة الإسلام، وقد ساهم الإمام عليه السلام بکلِّ ما بوسعه، وادَّي ما عليه من البلاغ، من تعليم وتفقيه، بل وقضاء أيضاً..

ومن الأمور التي أشار الإمام علي ابن الخطَّاب هو أن يدوِّن التاريخ الإسلامي، وأن يجعل أول عام في تاريخ المسلمين هو عام الهجرة، حيث لم يکن للناس تاريخ خاص يؤرِّخون فيه، فبعضهم کان يؤرِّخ بعام الفيل، وآخرون يعتمدون في تاريخهم تأريخ الدول المجاورة لهم.. ممّا سبَّب الکثير من المشاکل والخلافات، لذلک عزم ابن الخطَّاب علي أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم.

ولمَّا رأي اختلاف الصحابة توجَّه إلي الإمام عليه السلام ـ کعادته ـ بعد أن خاف أن يتفرَّق أصحابه؛ لأنَّهم وقعوا في اختلاف شديد.. لمَّا أقبل علي عليِّ بن أبي طالب عليه السلام اتَّجه إليه يسأله، فقال عليه السلام: «نؤرِّخ بهجرة الرسول من مکَّة إلي المدينة» فأعجب ذلک الخليفة وکلُّ الصحابة، وهتف عمر يقول: «لازلت موفَّقاً يا أبا الحسن»، فأرَّخ بأهمَّ حدثٍ تاريخي عظيم، هجرة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وبداية عهد جديد في انتصارات عديدة، کما مرَّ سابقاً..

وفي هذه الفترة ظهر من الإمام عليٍّ أمور کثيرة وتعلّم الناس منه الفقه والحديث والتفسير، وکان مرجع المسلمين والمحافظ علي الاحکام وسبباً للنجاة من القتل والخلاص من الموت، فمثلاً:

روي أنَّه أُتي عمر بن الخطَّاب بحاملٍ قد زنت، فأمر برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: «هَبْ لک سبيلٌ عليها، أيُّ سبيل لک علي ما في بطنها!؟ والله تعالي يقول: (وَلأ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي)»، فقال عمر: لا عشتُ

[صفحه 162]

لمعضلةٍ لا يکون لها أبو حسن، ثُمَّ قال: فما أصنع بها؟ قال: «احتط عليها حتي تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يکفله فأقم الحدَّ عليها» فسُرِّي بذلک عن عمر، وعوَّل في الحکم به علي أمير المؤمنين عليه السلام[8] .

وتوفِّي عمر في ليلة الأربعاء، لثلاثٍ بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين، طعنه أبو لؤلؤة، مولي المغيرة بن شعبة، بخنجرٍ مسموم، فمات علي أثرها)[9] .



صفحه 157، 158، 159، 160، 161، 162.





  1. نهج البلاغة: الخطبة 3.
  2. انظر شرح نهج البلاغة 6: 44.
  3. شرح نهج البلاغة 6: 45 و 12: 46، مسند أحمد 1: 3 و 331 و3: 212 و 283، سنن الترمذي 5: 636 و3719، تاريخ اليعقوبي 2: 76، الإصابة 4: 270.
  4. جخف: تکبّر.
  5. انظر: الکامل في التاريخ 2: 458، تاريخ الطبري 5: 31، شرح ابن أبي الحديد 12: 53ـ 54، والآيات حسب التسلسل، سورة محمَّد: 9، سورة القلم: 4، سورة الشعراء: 215، سورة القصص: 68.
  6. انظر شرح ابن أبي الحديد 12: 78ـ 79 و 6: 45 و 12: 46.
  7. نهج البلاغة، الخطبة: 146.
  8. إرشاد المفيد 1: 204 وما بعدها.
  9. أنظر قصَّة مقتله في الکامل في التاريخ 2: 446، سير أعلام النبلاء 2: 88، وغيرها من کتب التراجم والتاريخ.