بيعته لأبي بکر
ولکن ظهرت في هذه الفترة بوادر ارتداد بعض الأعراب، قال: «فأمسکتُ يدي، حتي رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلي محق دين محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أري فيه ثلماً أو هدماً، تکون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتکم، التي إنَّما هي متاعُ أيَّامٍ قلائل...»[1] . لله وللإسلام سکت وصبر علي کلَّ ما سلف من هؤلاء الذين تآمروا عليه، وأساءوا إلي بضعة رسول الله زوجته، وقنع من الدنيا أن يجمع القرآن ويحفظه، ويشتغل بتفقيه الناس والقضاء بينهم.. وبعد أن بويع لأبي بکر بالخلافة تميَّز في مجتمع المدينة ومکَّة، عن سائر الناس، فريقان: [صفحه 145] الفريق الأول: فريق أظهر کلَّ ما کان يخفيه من نفاق وسعي إلي إثارة الفتنة، يقابله فريق آخر لم يظهر الحقَّ بکلِّ ما يملک من قدرة.. فأمَّا الفريق الأول فهم الکائدون للإسلام، أولهم وعلي رأسهم أبو سفيان الذي قدم علي أمير المؤمنين عليه السلام يحرِّضه من مناجزة القوم الذين کانوا مع أبي بکر، فيقول له: والله لئن شئت لأملأنَّها عليه خيلاً ورَجِلاً. فردَّه عليه السلام: «والله إنَّک ما أردت بهذه الا الفتنة، وإنَّک والله طالما بغيت للإسلام شرَّاً، لا حاجة لنا في نصيحتک»[2] . ومن هذا القسم أيضاً مسلمو الفتح: ـ الطلقاء، والمؤلَّفة قلوبهم ـ وکان في طليعتهم: سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعکرمة بن أبي جهل، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، سعوا في الفتنة أيضاً، يحرِّضون قريشاً علي الأنصار لهتافهم باسم عليٍّ، يريدون إلزامهم بتجديد البيعة والا فليقتلوهم! وظهر أبو سفيان مرَّة أُخري قائلاً: يا معشر قريش، إنَّه ليس للأنصار أن يتفضَّلوا علي الناس، حتي يُقرُّوا بفضلنا عليهم.. وأيم الله لئن بطروا المعيشة، وکفروا النعمة، لنضربنّهم علي الإسلام کما ضربونا عليه! ولم يذکر لنا التاريخ في هذه الحوادث موقفاً إيجابياً واحداً لأبي بکر أو عمر لردع الفتن! هؤلاء هم الذين طالما کادوا للإسلام بسيوفهم عشرين عاماً أو تزيد فدخلوا الإسلام عنوةً، فلمَّا لم يجدوا بدَّاً من الکيد بأيديهم کادوه بألسنتهم. [صفحه 146] وما أجمل قول حسَّان بن ثابت: تنـادي سهيلٌ، وابن حربٍ وحارثٌ أولئک رهـطٌ من قريـشٍ تبايعــوا وکلُّهم ثــانٍ عـن الحـقِّ عطفــه وأعجب منهـم، قابلــوا ذاک منهـم أمَّا الفريق الآخر فهم المناصرون لعليٍّ عليه السلام، الداعون إلي حقِّه بالإمامة، ويلحق بهذه الطائفة المهاجرون والأنصار الذين مالوا عن مبايعة أبي بکر، حيث کانوا لا يشکُّون أنَّ الأمر صائر إلي عليٍّ عليه السلام، وکان شعارهم الذي رفعوه بأصواتهم: «لا نبايع الا عليَّاً» ومنهم: عتبة بن أبي لهب بن عبدالمطلب الذي أنشد يقول: ما کنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصـرفٌ عن أوَّل النــاس إيمانـاً وسابقـةً وآخر النـاس عهداً بالنبـيّ ومَــنْ ِ مَنْ فيــه ما فيهم لا يمتــرون به ومنهم: المقداد وعمَّار وسلمان وأبو ذرٍّ وحذيفة بن اليمان وخالد بن سعيد بن العاص وأبو أيوب الأنصاري، وسائر بني هاشم. ولا ننسي موقف الحسن السبط من أبي بکر، حين رآه يرقي منبر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو مايزال في الثامنة من عمره، يناديه: «إنزل عن منبر [صفحه 147] أبي، واذهب الي منبر أبيک»[5] ! ومنهم: ابن عباس في حديثه مع عمر، حين سأله عمر عن عليٍّ عليه السلام، فقال: أيزعمُ أنَّ رسول الله نصَّ عليه؟! قال ابن عباس: نعم، وأزيدک: سألت أبي عن ذلک، فقال: صدق[6] وغيرها من المواقف التي سنأتي عليها في موضوع لاحق. ومنهم: قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، إذ ذکر ـ سعد بن عبادة ـ عليَّاً عليه السلام، فذکر من أمره نصَّاً بوجوب ولايته، فقال له ابنه: أنت سمعت من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول هذا الکلام في عليِّ بن أبي طالب، ثُمَّ تطلب الخلافة، ويقول أصحابک: منَّا أمير ومنکم أمير؟! لا کلَّمتک والله من رأسي بعد هذا کلمةً أبداً[7] . وفي ما وراء المدينة ومکة هناک قبائل من المسلمين، لم يرضوا بالبيعة لأبي بکر، فامتنعوا عن أداء الزکاة له، لا جحوداً بالزکاة، ولکن إنکاراً لزعامته[8] ، فعزم أبو بکر علي مقاتلتهم بحجَّة أنَّ هذا الأمر تعطيل لفريضة الزکاة التي أوجبها الله علي المسلمين، غاضَّاً بصره عن السبب الأصلي الذي دعاهم إلي هذا الموقف الصلب، وهو اعتراضهم علي الخلافة! فمع أحد شيوخ کندة في حضرموت، الحارث بن سراقة يقول: «نحن إنَّما أطعنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إذ کان حيَّاً، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه، [صفحه 148] وأمَّا ابن أبي قحافة فلا والله، ما له في رقابنا طاعة ولا بيعة»! ثمَّ أنشد أبياتاً، کان أوَّلها: أطعنــا رسول الله إذ کان بيننا ومنهم: زعيم کندة الأشعث بن قيس، الذي أمر قومه بمنع الزکاة، وأن يلزموا بلادهم، ويتَّحدوا علي کلمة واحدة، «فإنِّي أعلم أنَّ العرب لا تقرُّ بطاعة بني تيم بن مرَّة، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلي غيرهم..»[10] . والأنکي من ذلک کان الأمر مع مالک بن نويرة، الذي استعمله رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم علي صدقات قومه، فلمَّا نُعي له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قام بتوزيع الصدقات علي فقراء قومه، ولم يبعثها إلي الخليفة الجديد.. وأنشد يقول: فقلتُ خذوا أموالکـم غير خائفٍ فإن قام بالدين الُمحـوَّق قائــمٌ إذن هؤلاء لم تطمئن قلوبهم للخليفة الجديد، هذه هي مشکلتهم التي من أجلها ارتکب خالد بن الوليد أبشع مجزرة في ظلَّ الخلافة الجديدة، فضرب أعناقهم صبراً واحداً بعد الآخر وارتکب أيضاً أقبح کبيرة، إذ واقع زوجة مالک في ليلة قتله[11] . [صفحه 149] وهناک حروب داخلية ـ دينية وسياسية ـ غير هذه التي ذکرناها، لابدَّ من الوقوف عليها ولو بشيء من الاختصار، تلک التي جرت مع المرتدّين حقَّاً، الذين أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام جهرةً، ومالوا إلي أديان أُخري، وبعض رؤوساء هذه القبائل ادَّعي النبوَّة، وکان علي رأسهم: مسيلمة الکذَّاب، الذي کان علي قبيلة بني حنيفة، ادَّعي النبوَّة، قبل وفاة النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم، ثُمَّ الأسود العنسي بصنعاء، ثُمَّ ادَّعي النبوَّة طليحة بن خويلد الأسدي في بلاد بني أسد، في مرض النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم الذي توفِّي فيه. ثمَّ ادَّعت النبوة سجاح بنت الحارث التميمية، بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وکان رجل من أصحابها ينشد: أمستْ نبيَّتنا أنثي نطيفُ بها وانتهي أمرها أن تزوَّجها مسيلمة[12] . فکانت هذه الحروب حروب المرتدِّين الحقيقيين، أهمَّ دواعي توحيد الصفِّ في المدينة المنوَّرة، إذ کانت هذه الحروب طويلة وکثيرة، وقد اتَّفقوا کلّهم علي مقاتلتهم يداً واحدة.
رأينا فيما سبق کيف وقف أمير المؤمنين عليه السلام من أحداث السقيفة، خلال الأشهر الأولي من وفاة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم مع جماعة من المهاجرين والأنصار، موقفاً يتَّسم بالشدَّة والصلابة، محتجَّاً عليهم بالمنطق الذي احتجوا فيه علي الأنصار يوم السقيفة، إضافةً إلي أنَّه عليه السلام قد ذکَّرهم بالنصوص التي صرَّح بها رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بحقِّه، والتي لا يجهلها أحد منهم، واستطاع عليه السلام بتلک المواقف الحکيمة أن يستميل إلي جانبه عدداً من المسلمين.
وعکـرمـة الشاني لنا ابنُ أبي جهلِ
علي خطَّةٍ ليست من الخططِ الفضـلِ
يقول اقتلوا الأنصار، يا بئس من فعلِ
کأنَّـا اشتملنا من قريش علي ذحلِ[3] .
عن هاشمٍ، ثُمَّ منها عن أبي الحســنِ
وأعلـمِ النــاس بالقـرآنِ والسُنـنِ
جبريـلُ عونٌ له فـي الغسل والکفن
وليس في القوم ما فيه من الحسنِ[4] .
فيا عجباً ممَّن يطيع أبا بکرِ[9] .
ولا نظرٍ فيما يجيء من الغدِ
أطعنا، وقلنا الدين دينُ محمَّدِ
وأصبحت أنبياء الناس ذُکرانا
صفحه 145، 146، 147، 148، 149.