جدّه وأبوه











جدّه وأبوه



جدّه عبدالمطَّلب، الملقَّب بشيبة الحمد؛ لشيبة کانت في رأسه[1] ، وقيل: «اسمه شيبة»[2] ، وکنيته: أبو البطحاء، لأنَّهم استسقوا به سقياً فکنَّوه

[صفحه 11]

به[3] .. وقد بلغ من الشرف في قومه ما لم يبلغه أحد من قبل.

وکان عبدالمطَّلب جدُّ رسول الله يکفله، وعبدالمطَّلب يومئذٍ سيِّد قريش غير مدافَع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعطِ أحداً، وسقاه زمزم وذا الهُدُم، وحکَّمته قريش في أموالها، وأطعم في الُمحل حتي أطعم الطير والوحوش في الجبال.

قال أبو طالب:


ونُطعمُ حتي تأکُلَ الطيرُ فضلَنا
إذا جَعَلَتْ أيدي المُفيضينَ تَرْعَدُ


وکان علي ملَّة إبراهيم الخليل؛ فرفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزَّوجلَّ، وسنَّ سنناً نزل القرآن بأکثرها، وجاءت السُنَّة من رسول الله بها وهي: الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الديّة، والا تنکح ذات محرم، ولاتؤتي البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحدُّ عليه، والقرعة، والا يطوف أحدٌ بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، والا ينفقوا إذا حجَّوا الا من طيِّب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحُرم، ونفي ذوات الرايات[4] .

هکذا کان مجاهراً بدينه، داعياً إلي الخلق الکريم والمبادئ السامية التي جاءت بها الاديان، وکان له في هذه الخصال دور لا يشارکه فيه أحد، حتي أنَّ قريشاً کانت تسميه إبراهيم الثاني.

[صفحه 12]

وکان يفرش له بفناء الکعبة والناس من حوله يهابونه، فلا يقرب فراشه أحد، الا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قد کان يتخطَّي رقاب عمومته، ويجلس علي فراش جدِّه، ولما حاولوا منعه قال لهم: دعوا ابني، إنَّ لابني هذا شأناً..

وتوفِّي عبدالمطَّلب ولرسول الله ثماني سنين، وکانت قد أتت علي عبدالمطَّلب مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة وأربعون سنة[5] .

وعن أمِّ أيمن قالت: أنا رأيت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يمشي تحت سريره وهو يبکي، وقيل: کان لعبدالمطَّلب يوم مات ثمانون سنة[6] .

وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر ودُفن بالحجون، وقيل: إنَّه حُمل علي أيدي الرجال عدَّة أيَّام إعظاماً وإکراماً وإکباراً لتغييبه في التراب.

وروي عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «إنَّ الله يبعث جدِّي عبدالمطَّلب أُمَّة واحدة في هيئة الأنبياء وزيِّ الملوک»[7] .

وورث أبو طالب ـ والد عليٍّ أمير المؤمنين عليه السلام ـ زعامة أبيه عبدالمطَّلب، وکفالته رسول الله، فکان خير کافل ومعين، وقد کان کأبيه سيِّداً شريفاً مهيباً.

قال عليُّ بن أبي طالب: «أبي ساد فقيراً، وما ساد فقيرٌ قبله»[8] .

[صفحه 13]

وخرج برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم إلي بُصري من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال: «والله لا أکِلک إلي غيري»[9] .

وتولَّي العناية برسول الله والقيام بشؤونه من سنة ثمان من مولده الشريف، وحتي العاشرة من النبوَّة، وذلک اثنان وأربعون سنة، وظل يدافع عن النبي ورسالته حتي آخر نفس من حياته، وقد انعکست هذه الحقيقة وتجلَّي موقفه هذا في کثير من أشعاره، منها قوله:


ليعلــم خيار الناس أنَّ محمداً
نبيٌّ کموسي والمسيح ابن مريم


وقوله:


ألم تعلمــوا أنَّا وجدنــا محمدا
رسولاً کموسي خطَّ في أوَّل الکتبِ


وقوله في لاميَّته الشهيرة:


لقد علمـوا أنَّ ابننا لا مکذَّبٌ
لدينا ولا يُعنَي بقولِ الأباطلِ


فأصبـح فينا أحمد في اُرومة
تُقصِّـر عنه سَورَة المتطاوِلِ


حَدِبْتُ بنفسـي دونه وحميتُه
ودافعت عنه بالذُّرا والکلاکلِ


فأيَّده ربُّ العبـاد بنصــره
وأظهرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطلِ[10] .


وتوفِّي أبو طالب بعد وفاة خديجة بثلاثة أيَّام ـ أي قبل هجرة الرسول من مکَّة إلي المدينة بثلاث سنين ـ في شوال أو في ذي القعدة، وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون[11] ، وسمَّي النبيُّ صلي الله عليه وآله وسلم هذا العام بعام

[صفحه 14]

الحزن، وقال صلي الله عليه وآله وسلم: «ما نالت قريش شيئاً أکرهه حتي مات أبو طالب»[12] .

وقال السدي: مات أبو طالب وهو ابن بضع وثمانين سنة، ودُفن بالحجون عند عبدالمطَّلب.

ولمَّا قيل لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنَّ أبا طالب قد مات، عظُم ذلک في قلبه، واشتدَّ له جزعه، ثُمَّ دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرَّات، وجبينه الأيسر ثلاث مرَّات، ثُمَّ قال: «يا عم ربيّت صغيراً، وکفلت يتيماً، ونصرت کبيراً، فجزاک الله عنِّي خيراً» ومشي بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: «وصلتک رحم وجُزيتَ خيراً»، وقال: «اجتمعت علي هذه الأُمَّة في هذه الأيَّام مصيبتان لا أدري بأيِّهما أنا أشدُّ جزعاً» يعني: مصيبة خديجة وأبي طالب رضي الله عنهما[13] .

وسُئل الإمام السجَّاد عليه السلام عن إيمان أبي طالب، فقال: «واعجباً، إنَّ الله نهي رسوله أن يقرَّ مسلمة علي نکاح کافر؛ وقد کانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلي الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتَّي مات»[14] .

وهو من أوضح البراهين علي إيمان أبي طالب رضي الله عنه.



صفحه 11، 12، 13، 14.





  1. تذکرة الخواص: 14.
  2. البداية والنهاية 7: 223.
  3. انظر تفاصيل ذکره في تذکرة الخواص: 14.
  4. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب 2: 10ـ 11 دار صادر.
  5. انظر تاريخ اليعقوبي 2: 13.
  6. انظر تذکرة الخواص: 18.
  7. تاريخ اليعقوبي 2: 14.
  8. تاريخ اليعقوبي 2: 14.
  9. أنظر تاريخ اليعقوبي 2: 14.
  10. أنظر: السيرة النبوية، ابن هشام 1: 229ـ 235، دار الفکر، 1415هـ.
  11. تاريخ اليعقوبي 2: 35.
  12. البداية والنهاية 3: 13.
  13. تاريخ اليعقوبي 2: 35.
  14. الصحيح من سيرة النبيِّ الأعظم 3: 238.