وقعة الأحزاب











وقعة الأحزاب



وتسمَّي أيضاً «غزوة الخندق» وکانت في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة[1] 627 م، وقيل: في شوال[2] ، وقيل: في السنة السادسة، بعد مقدم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً[3] .

وکان سببها: لمَّا أجلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بني النضير ساروا إلي خيبر، وحزَّبوا الأحزاب علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، فقدموا علي قريش بمکَّة، وألَّبوها علي حرب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وقالوا: نکون معکم حتَّي نستأصله، وما کان من أمر قريش الا أن تستجيب لضالَّتها المنشودة في القضاء علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأعوانه.

وتجهَّزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، فکان جميع القوم الذين وافوا الخندق، ممن ذُکر من القبائل، عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وکانوا ثلاثة عساکر بقيادة أبي سفيان بن حرب.

فلمَّا بلغ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم خبرهم جمع المسلمين، وحثَّهم علي الجهاد والصبر والاستعداد لمقابلة الغزاة وشاورهم في الأمر، فأشار عليه سلمان الفارسي بالخندق، فأعجب ذلک المسلمين، لأنَّ عملاً من هذ النوع لابدَّ وأن يعرقل تقدُّم الغزاة، ويخفِّف من أخطار المجابهة بين الفريقين.

وأقبل المسلمون جميعاً يحفرون خندقاً حول المدينة، وجعل رسول الله

[صفحه 79]

لکلِّ عشرة أربعين ذراعاً[4] ، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وفرغوا من حفره في ستة أيام، وکان سائر المدينة مشبک بالبنيان، فهي کالحصن، وکان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف مقاتل.

وخرج رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لقتال قريش وأحباشها، وهنا کانت الصدمة الکبيرة علي قريش، وهي تحسب أنَّ النبي صلي الله عليه وآله وسلم وصحبه لا يثبتون لها ساعات قلائل بهذا العدد الضخم، وإذا بها تجد بينها وبين المسلمين حاجزاً لا يمکن اجتيازه الا بعد جهود شاقة، لاسيَّما وأنَّ أبطال المسلمين وقفوا بالمرصاد لکل من تحدِّثه نفسه باجتياز ذلک الحاجز، فأُذهلت بعد أن کانت مغرورة بقوتها الجبَّارة!

وأنکروا أمر الخندق، وقالوا: ما کانت العرب تعرف هذا، وأقاموا علي هذه الحال ـ الرشق بالنبل والحجارة ـ مدَّة خمسة أيام[5] دون قتال..

فلمَّا کان اليوم الخامس خرج عمرو بن عبد ودٍّ العامري ـ وکان يعدّ بألف فارس ـ وأربعة نفر من المشرکين: نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي، وعکرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطَّاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، واقتحموا الخندق من مکان ضيِّق، ورکز عمرو رمحه في الأرض ـ وهو ابن تسعين سنة[6] ـ وأخذ يجول، ويدعو إلي البراز ويرتجز:

[صفحه 80]

ولقــد بححتُ من النـداءِ
بجمعهم هــل من مبارز؟


انِّـي کـذلــک لـم أزل
متسرِّعاً نحـو الهزاهــز


إنَّ الشجاعــة فـي الفتي
والجود من خير الغرائز[7] .


وکأنَّ هذه الکلمات نداء إلي الموت، فلم يجبه أحد من المسلمين، وفي کلِّ مرّة يکرّر فيها نداءه کان يقوم له عليُّ بن أبي طالب عليه السلام من بينهم ليبارزه، فيأمره رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرَّک غيره، ولکن لم ينهض أحد؛ لمکان عمرو بن عبد ودٍّ ومن معه.

ومضي عمرو يکرِّر النداء والتحدِّي للمسلمين، فقام عليٌّ عليه السلام مرَّةً أُخري، فأجلسه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وقال له: «إنَّه عمرو»، ونادي مرَّةً أُخري، فقام عليٌّ عليه السلام، فأذن له رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. فقال له: «ادنُ منِّي» فدنا منه، فنزع عمامته عن رأسه وعمَّمه بها وأعطاه سيفه ذا الفقار، وقال له: «امضِ لشأنک» ثُمَّ رفع يديه وقال: «اللَّهمَّ إنَّک أخذت منِّي حمزة يوم أُحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليَّاً، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين».

وقال نبيُّ الله صلي الله عليه وآله وسلم لمَّا دنا عليٌّ عليه السلام من عمرو: «خرج الإيمان سائره إلي الکفر سائره»..

فبرز إليه عليٌّ، وهو يقول:


«لا تعجلـنَّ فقد أتــاک
مجيب صوتک غير عاجز


ذو نيَّةٍ وبصيــرة والـ
صدق منجي کلَّ فائــز

[صفحه 81]

إنِّي لأرجـو أن أُقيـم
عليک نائحـة الجنائز


من ضربة نجلاء يبقي
صيتها بعد الهزاهز»


فلمَّا انتهي إليه قال: «يا عمرو إنَّک في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحدٌ إلي ثلاث الا قبلتها، أو واحدة منها». قال: أجل. قال: «فإنِّي أدعوک إلي شهادة أن لا إله الا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأن تُسلم لربِّ العالمين». قال: يا ابن أخ، أخِّر هذه عنِّي. فقال له عليٌّ: «أمَّا إنَّها خيرٌ لک لو أخذتها».

ثُمَّ قال: «فها هنا أُخري» قال: ما هي؟ قال: «ترجع من حيث جئت». قال: لا تَحدَّث نساء قريش بهذا أبداً.

قال: «فها هنا أُخري». قال: ما هي؟ قال: «تنزل تقاتلني» فضحک عمرو وقال: إنَّ هذه الخصلة ما کنت أظنَّ أنَّ أحداً من العرب يرومني مثلها، إنِّي لأکره أن أقتل الرجل الکريم مثلک، وقد کان أبوک لي نديماً[8] .

قال عليٌّ عليه السلام: «ولکنِّي أُحبُّ أن أقتلک، فانزل إن شئت».

فغضب عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتي رجع[9] ، وحمل علي عليٍّ عليه السلام وضربه علي رأسه فاتَّقاها بالدرقة، فقدَّها السيف ونفذ منها إلي رأسه فشجَّه، وبقي محتفظاً بثباته، وتوالت عليه الضربات وهو يحيد عنها، ثُمَّ کرَّ عليه عليٌّ عليه السلام فضربه علي حبل عاتقه ضربةً کان دويُّها کالصاعقة،

[صفحه 82]

ارتجَّ له العسکران، فسقط يخور بدمه کالثور، وارتفعت غبرة حالت بينهما وبين الجيشين.

علي أنَّ هناک رواية أُخري[10] تذهب إلي أن الامام ضرب عمراً علي ساقيه فقطعهما جميعاً، فسقط الي الأرض، فأخذ عليٌّ عليه السلام بلحيته وذبحه، وأخذ رأسه بيده هدية إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وأقبل والدماء تسيل علي وجهه من ضربة عمرو، ورأس عمرو بيده يقطر دماً، وکان وجه علي عليه السلام يتهلَّل فرحاً، فألقاها بين يدي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، فقام أبو بکر وعمر فقبّلا رأس عليٍّ عليه السلام، فعانقه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، ودعا له، فقال عمر بن الخطَّاب لعليٍّ عليه السلام: هلا استلبت درعه، فليس للعرب درع خير منها؛ فقال عليٌّ: «ضربته فاتَّقاني بسوأته فاستحييت أن أسلبه».

وعلي أيِّ حال فقد علت أصوات المسلمين بالتکبير، بعد أن أصابهم الخوف في بادئ الأمر، وانهزم الذين کانوا مع عمرو بن عبد ودٍّ، واقتحمت خيولهم الخندق، وکبا بنوفل بن عبدالله بن المغيرة فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة، فقال لهم: قتلة أجمل من هذه، ينزل إليَّ بعضکم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليه السلام فضربه حتَّي قتله، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تکفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فانصرفوا هاربين لا يلوون علي شيء، حتَّي رکب أبو سفيان ناقته وهي معقوله! فلمَّا بلغ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الله ذلک: قال: «عوجل الشيخ».

وعن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال في قتل عليٍّ عليه السلام لعمرو: «لضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين».

[صفحه 83]

قال جابر: «فما شبهت قتل عليٍّ عمراً الا بما قصَّ الله تعالي من قصة داود وجالوت، حيث قال: (فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت)»[11] [12] .

نعم لقد قلبت ضربة عليٍّ عليه السلام لعمرو الوضع تماماً، بعدما کان النصر حليف قريش بقوَّتها الجبَّارة، وصدق سبحانه حيث قال: (وکَمْ مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِيرَةً)[13] .

بسيف عليٍّ عليه السلام کان النصر حليف المسلمين وهنا يسکت القلم، ولا يدري ماذا يکتب عن شجاعة ابن أبي طالب عليه السلام فقد کفي الله المؤمنين القتال به عليه السلام.

ولمَّا نُعي عمرو بن عبد ودٍّ إلي أخته عمرة، قالت: مَن قتله؟ ومن الذي اجترأ عليه؟ فقيل لها: قتله عليُّ بن أبي طالب. فقالت: لقد قتل الأبطال وبارز الأقران، وکانت ميتته علي يد کفءٍ کريم من قومه، وأنشأت تقول:


لو کان قاتل عمرو غيــر قاتله
لکنت أبکـي عليــه دائم الأبد


لکنَّ قاتلــه من لا يعــاب به
قد کــان يدعي أبوه بيضة البلد


من هاشم في ذراها وهي صاعدة
إلـي السماء تميت الناس بالحسد


قوم أبي الله الا أن تکــون لهم
کرامـة الديــن والدنيا بلا لدد


يا أم کلثوم ابکيـه ولا تدعــي
بکـاء معولة حرّي علي ولد[14] .


هکذا اکتسح عليُّ بن أبي طالب عليه السلام فرسان المعارک وشجعان الفلا..

[صفحه 84]

حتَّي لم يعد له مثيل بين أبطال العرب، يسابق الأسود، ويقطع الرؤوس، ولايخاف في الله لومة لائم، فهو الوحيد الذي بدَّد آمال الأحزاب في الخندق، وبثَّ في صفوفهم الرعب، وهنا أنزل الله تعالي علي رسوله الآية: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْکُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْکُمْ إذْ جَاءَتْکُمْ جُنُودٌ فَأرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَکَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً)[15] .



صفحه 79، 80، 81، 82، 83، 84.





  1. طبقات ابن سعد 2: 50.
  2. الکامل في التاريخ 2: 70.
  3. تاريخ اليعقوبي 2: 50.
  4. الکامل في التاريخ 2: 70.
  5. تاريخ اليعقوبي 2: 50.
  6. طبقات ابن سعد 2: 52.
  7. ارشاد الشيخ المفيد 1: 100.
  8. قال أبو الخير أستاذ أبن أبي الحديد: «والله ما طلب عمرو الرجوع من عليٍّ إلاّ خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأُحد، وعلم إن هو بارز علياً قتله عليٌّ، فاستحي أن يظهر الفشل، فأظهر هذا الإدِّعاء، وإنَّه لکاذب». أنظر فضائل الإمام علي: 113.
  9. الارشاد 1: 102، وإعلام الوري 1: 381.
  10. ارشاد القلوب 2: 218.
  11. سورة البقرة: 251.
  12. انظر إعلام الوري 1: 382.
  13. سورة البقرة: 249.
  14. ارشاد القلوب 2: 218 بتفاوت.
  15. سورة الاحزاب: 33: 9.