غزوة أُحد











غزوة أُحد



أخذ المشرکون يعدُّون العدَّة للثأر، واستطاعوا أن يؤلِّفوا جيشاً کبيراً، يضمُّ ما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل! وتبرَّع أبو سفيان بأموال طائلة لتجهيز هذا الجيش الذي قاده بنفسه، وقبل أن تخرج قريش إلي أُحد بعث العبَّاس بن عبدالمطَّلب إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يخبره بکيد قريش واستعدادها.

وبدأ النبيُّ صلي الله عليه وآله وسلم من ساعة وصول الرسالة يستعدُّ لملاقاة الجيش الزاحف نحوهم، وکان ذلک في شوال، في السنة التالية لمعرکة بدر.

خرج الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في ألف رجل أو يزيدون قليلاً، وکان الإمام عليُّ بن أبي طالب عليه السلام حامل لوائه، ووزَّع الرسول صلي الله عليه وآله وسلم الرايات علي وجوه المهاجرين والأنصار، ولمَّا کان بين المدينة وأُحد، عاد عبدالله بن أُبي

[صفحه 72]

ـ رأس النفاق ـ بثلث الجيش قائلاً: علامَ نقتل أنفسنا؟! ارجعوا أيُّها الناس، فرجع وبقيَ مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم سبعمائة.

ومضي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بجيشه البالغ سبعمائة رجلٍ حتي بلغ أُحداً، فأعدَّ أصحابه للقتال، ووضع تخطيطاً سليماً للمعرکة ليضمن لهم النصر بإذن الله، ثُم جعل أُحداً خلف ظهره، فجعل الرماة علي جبل خلف عسکر المسلمين وهم خمسون رجلاً، وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير، وقال لهم: «احموا ظهورنا ولا تفارقوا مکانکم، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشارکونا، فإنَّما نؤتي من موضعکم هذا»[1] .

ولمَّا التحمت المعرکة تقدَّم طلحة بن أبي طلحة ـ وکان يدعي کبش الکتيبة ـ وصاح: من يبارز؛ فخرج إليه عليٌّ عليه السلام، وبرزا بين الصفَّين، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم جالس في عريش أُعدَّ له يشرف علي المعرکة ويراقب سيرها، فقال طلحة: مَنْ أنت؟ قال: «أنا عليُّ بن أبي طالب» فقال: لقد علمت أنَّه لا يجرؤ عليَّ أحدٌ غيرک، فالتحمت سيوفهم، فضرب عليٌّ عليه السلام رأس عتبة ضربة فلق فيها هامته، فبدرت عيناه وصاح صيحة لم يُسمع مثلها، وسقط اللواء من يده، ووقع يخور في دمه کالثور، وقيل: ضربه فقطع رجله، فسقط وانکشفت عورته، فناشده الله والرحم فترکه[2] .

فکبَّر رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم والمسلمون، وتقدَّم بعده أخوه عُثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة بن عبدالمطَّلب، فضربه بسيفه ضربةً کانت بها نهايته، ورجع عنه يقول: أنا ابن ساقي الحجيج.

[صفحه 73]

وأخذ اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد بن أبي طلحة، فحمل عليه عليٌّ عليه السلام فقتله، ثُمَّ أخذ اللواء أرطأة بن شرحبيل، فقتله عليٌّ عليه السلام أيضاً، وأخذ اللواء بعد ذلک غلام لبني عبدالدار، فقتله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام.

وذکر المفيد في إرشاده: أنَّ أصحاب اللواء کانوا تسعة، قتلهم عليُّ بن أبي طالب عن آخرهم، وانهزم القوم[3] .

وتؤکِّد أکثر الروايات أنَّه بعد أن قُتل أصحاب الألوية والتحم الجيشان، لم يتقدَّم أحد من عليٍّ عليه السلام الا بعجه بسيفه أو ضربه علي رأسه، ففلق هامته وأرداه قتيلاً، وانکشف المشرکون لا يلوون علي شيء، حتي أحاط المسلمون بنسائهم، ودبَّ الرعب في قلوبهم، ولو أراد المسلمون أن يأسروا هنداً ومن معها ما وجدوا من يمنعهم من ذلک.

وإنَّ النصر الذي تهيَّأ للنبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم في أُحد لم يتهيَّأ له في موطنٍ قطّ، وظلَّ النصر إلي جانب المسلمين، حتَّي عصوا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وانصرفوا إلي الغنائم.

فقد أُصيب المسلمون من قبل الرماة الذين وضعهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم من ورائهم، ليحموا ظهورهم بالنبال إن هجم المشرکون من جهة الجبل، لکن لمَّا انهزم المشرکون لا يلوون علي شيء، نزل الرماة من علي الجبل، بعد أن نظروا إلي اخوانهم المسلمين ينتهبون الغنائم، وردعهم أميرهم عبدالله بن جبير، فأبوا الرجوع، ثُمَّ انطلقوا للسلب والنهب، ولم يبقَ مع ابن جبير الا عشرة رجال.

[صفحه 74]

ولمَّا رأي خالد بن الوليد أنَّ ظهر المسلمين قد خلا، کرَّ في مئتي فارس، علي من بقي مع ابن جبير فأبادهم، وقُتل ابن جبير بعد أن قاتل قتال المستميت، وتجمَّع المشرکون من جديد، وأحاطوا بالمسلمين من خلفهم، وهم غافلون لنهب الغنائم، واستدارت رحاهم وحالت الريح فصارت دبوراً، وما أحسَّ المسلمون الا والعدو قد أحاط بهم واختلط بينهم، وأصبحوا کالمدهوشين، يتعرَّضون لضرب السيوف وطعن الرماح من کلِّ جانب، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، واشتدَّ عليهم الأمر حتَّي قتل بعضهم بعضاً من حيث لا يقصدون.

وفرَّ المسلمون عن نبيِّ الله صلي الله عليه وآله وسلم، ولم يکن عليٌّ عليه السلام يفکِّر في تلک اللحظات الحاسمة الا برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لا سيَّما وقد رأي المشرکين يتَّجهون نحوه، وأصبح هدفهم الأول، بعد أن أصبحت المعرکة لصالحهم، فأحاط به هو وجماعة من المسلمين، وقد استماتوا في الدفاع عن النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم، وحمزة يهذُّ الناس بسيفه هذَّاً، وعليٌّ عليه السلام يفرِّق جمعهم کالصقر الجائع حينما ينقضّ علي فريسته، فيشتِّتهم إرباً إرباً بسيفه البتَّار، وهو راجل وهم علي متون الخيل، فدفعهم عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم حتَّي انقطع سيفه.

وقاتل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قتالاً شديداً، وقد تجمَّع عليه المشرکون وحاولوا قتله بکلِّ سبيل، ورماه ابن قمئة فکسر أنفه ورباعيته السفلي، وشقَّت شفته، وأصابته ضربة في جبهته الشريفة، وسال الدم علي وجهه الشريف. وغلب عليه الضعف.

روي عکرمة قال: سمعت عليَّاً عليه السلام، يقول: «لمَّا انهزم الناس يوم أُحد

[صفحه 75]

عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لحقني من الجزع عليه ما لم أملک نفسي، وکنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت: ما کان رسول الله ليفرَّ، وما رأيته في القتلي، فأظنُّه رُفع من بيننا، فکسَّرت جفن سيفي وقلت في نفسي: لأقاتلنَّ به عنه حتَّي أُقتل، وحملت علي القوم فأفرجوا، فإذا أنا برسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وقد وقع علي الأرض مغشيَّاً عليه، فقمت علي رأسه، فنظر إليَّ فقال: ما صنع الناس، يا عليُّ؟ فقلت: کفروا يا رسول الله وولَّوا الدبر وأسلموک، فنظر إلي کتيبة قد أقبلت فقال صلي الله عليه وآله وسلم: ردَّ عنِّي يا عليُّ هذه الکتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتَّي ولَّوا الأدبار، فقال لي النبي صلي الله عليه وآله وسلم: أما تسمع مديحک في السماء، إنَّ ملکاً يقال له: رضوان ينادي: لا سيف الا ذو الفقار ولا فتي الا عليُّ، فبکيتُ سروراً وحمدت الله علي نعمه»[4] .

نقل ابن الأثير: لقد أصابت عليَّاً يوم أحد ستُّ عشرة ضربة، کلُّ ضربةٍ تلزمه الأرض، فما کان يرفعه الا جبريل عليه السلام[5] .

وفي هذه الوقعة قُتل حمزة بن عبدالمطَّلب، رماه وحشي ـ وهو عبد لجبير بن مطعم ـ بحربة، فسقط شهيداً، ومثَّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، وشقَّت عن کبده فأخذت منها قطعة فلاکتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم جزعاً شديداً، وقال: «لن أُصاب بمثلک»..

ولمّا يئس المشرکون من قتل النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم برغم جميع المحاولات، فترت

[صفحه 76]

همَّتهم وقفلوا راجعين، بعد أن قُتل من المسلمين ثمانية وستُّون رجلاً، ومن المشرکين اثنان وعشرون رجلاً، وکفي الله المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السلام.

وقفل رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ومن معه راجعين إلي المدينة يوم السبت؛ فاستقبلته فاطمة عليها السلام ومعها إناء فيه ماء، فغسل وجهه، ولحقه الإمام وقد خضَّب الدم يده إلي کتفه ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة عليه السلام فقال: «خذي السيف فقد صدقني اليوم» وقال:


«أفاطمُ هاکِ السيف غيـر ذميـم
فلسـتُ بــرعديـد ولا بمليـمِ


لعمري لقد أعذرت في نصر أحمدٍ
وطاعــة ربٍّ بالعبـاد عليمِ»


فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: «خذيه يا فاطمة، فقد أدَّي بعلک ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش»[6] .



صفحه 72، 73، 74، 75، 76.





  1. انظر: الطبقات الکبري 2: 30، الکامل في التاريخ 2: 47، الارشاد 1: 80 باختلاف.
  2. انظر الکامل في التاريخ 2: 47.
  3. ارشاد المفيد 1: 88.
  4. إعلام الوري 1: 378.
  5. أُسد الغابة 4: 106.
  6. إعلام الوري 1: 379.