موامرة قريش في دار الندوة











موامرة قريش في دار الندوة



ضاق الأمر بالنبي صلي الله عليه وآله وسلم وتراکمت عليه الأحداث بعد خروجه من محنة الحصار في شعب أبي طالب، ولم تکن سوي أيام قلائل حتي توفِّي عمُّه أبو طالب، ناصره ومعينه علي أمره، أقبلت قريش المذعورة علي إيذائه بشتَّي الأساليب ـ بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله ـ فقد مات

[صفحه 47]

أبو طالب، ولم يعد بمکَّة من تهابه قريش وترعي له حرمة.. فخرج صلوات الله عليه إلي الطائف، وهذه أول رحلة قام بها من مکَّة للدعوة إلي الإسلام، فعمد إلي ثقيف يطلب منها النصر، لکنَّها رفضت أن تسمع له، ولم تکتفِ بذلک، بل أرسلت صبيانها يرشقوه بالحجارة، حتي أُدميت قدماه الشريفتان، کما أُصيب علي وزيد بن حارثة، حيث کانا معه في تلک الرحلة، وعليٌّ يتلقَّي الأحجار بيديه وصدره حتَّي أُثخن بالجراح، فکان رسول الله يقول: «ما کنت أرفع قدماً ولا أضعها الا علي حجر»[1] !

وبذلک قرَّروا الرجوع إلي مکَّة؛ فکلابها أهون من وحوش البراري! رجع يائساً من ثقيف وأحلافها، واستطاع الدخول إلي مکَّة بإجارة المطعم بن عدي له.

وحينما خافت قريش أن يقوي ساعده ـ ويصبح له أنصاراً جدداً، وحذروا من خروجه سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلي يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة، وتشاوروا في أمره وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، فقالوا: ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات عمُّه!

وکان اجتماعهم هذا قبيل شهر ربيع الأول عام 633 م، عام الهجرة، وبعد أن أعطي کلُّ واحد منهم رأيه، قال أبو جهل: أري أن نأخذ من کلِّ قبيلة فتيً نسيباً ونعطي کلَّ فتيً منهم سيفاً، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، کي لا يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها، بل يتفرق دمه في

[صفحه 48]

القبائل کلِّها، فلم يقدر آله وعشيرته علي حرب قومهم جميعاً، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا علي ذلک بعد أن اتَّفقوا علي الليلة التي يهاجمونه فيها وهو في فراشه.

فأتي جبرائيل النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأخبره بمکيدة قريش وأحلافها، کما تشير إلي ذلک الآية: (وَإذْ يَمْکُرُ بِکَ الَّذِينَ کَفَرُوا لِيُثْبِتُوکَ أوْ يَقْتُلُوکَ أوْ يُخْرِجُوکَ وَيَمْکُرُونَ وَيَمْکُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاکِرِين)[2] .

ومکر الله في الآية يعني: أنَّه سبحانه قد فوَّت عليهم مکرهم وتخطيطهم بما أخبر به نبيَّه، وبما أمره به من الخروج في تلک الليلة، ومبيت علي عليه السلام علي فراشه ليفوّت عليهم تدبيرهم الذي أجمعوا عليه.

ولما علم عليٌّ عليه السلام بتخطيط قريش لاغتيال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بکي، ورحَّب بالمبيت في فراشه فداءً له وللإسلام وقال له: «أو تَسْلَم أنت يارسول الله إن فديتک بنفسي»؟ قال له صلي الله عليه وآله وسلم: «نعم، بذلک وعدني ربِّي» فانشرح صدره لسلامة أخيه رسول الله.

وشاءت الأقدار أن يفتح عليُّ بن أبي طالب عليه السلام صفحةً مشرقةً من بطولاته لأنَّه تلميذ الرسالة الحقَّة وربيب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وسليل بني هاشم، وتقدّم مطمئن النفس، رابط الجأش، متَّشحاً ببرد الرسول الحضرمي، ونام ثابت الفؤاد لا يخاف في الله لومة لائم.

وکان ذلک سبباً لنجاة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وحفظ دمه، ولولا فداء أمير المؤمنين نفسه للرسول لما تمَّ تبليغ الرسالة والصدع بأمر الله تعالي.

[صفحه 49]

فلمَّا کانت العتمة اجتمعوا علي بابه يرصدونه، وودَّع رسول الله عليَّ ابن أبي طالب عليه السلام، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلي أهلها ويلحق به.

وفي بعض الروايات: أنَّه صلي الله عليه وآله وسلم خرج فأخذ حفنةً من تراب، فجعله علي رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من (يسَ * وَالْقُرْآنِ الْحَکِيمِ) إلي قوله: (فَهُمْ لأ يُبْصِرُون)[3] ثمَّ انصرف فلم يروه[4] .

هکذا، فإنّ القوم أحاطوا بالدار، وهم من فتيان قريش الاشداء، وجعلوا يرصدونه ليتأکَّدوا من وجوده، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.

أمَّا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من الدار، وکان قد اختبأ في مکان منها، وانطلق جنوباً إلي غار ثور، وکمن فيه ومعه أبو بکر، فأقاما فيه ثلاثاً.

ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم علي الدار، هجموا عليها، فوثب عليٌّ عليه السلام من فراشه، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..

وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساکن لا يتحرَّک ولا يبالي بما يصيبه من الأذي، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وخالد بن الوليد في مقدمهم، فوثب علي عليه السلام من فراشه وهمزه بيده، ففرَّ خالد واستطاع علي عليه السلام أنَّ يأخذ السيف منه، فشدَّ عليهم

[صفحه 50]

وانهزموا أمامه إلي الخارج[5] .

وسأل الرهط عليَّاً: أين ابن عمِّک؟

قال: «أمرتموه بالخروج فخرج عنکم»[6] ، وقيل: إنَّه قال: «لا علم لي به»[7] .

وأخرج اليعقوبي وابن الأثير وغيرهما: أنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحي في تلک الليلة إلي جبرئيل وميکائيل أنِّي قضيت علي أحدکما بالموت، فأيِّکما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة کلاهما، فأوحي الله إليهما: هلأَ کنتما کعليِّ بن أبي طالب... آخيت بينه وبين محمَّد، وجعلت عمر أحدهما أکثر من الآخر، فاختار عليٌّ الموت وآثر محمَّداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوِّه. فهبط جبرئيل وميکائيل فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوِّه، ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول: بخ بخ لک يا ابن أبي طالب مَن مثلک يباهي الله بک ملائکة سبع سموات![8] .

ولم يشرک أمير المؤمنين عليه السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام، ولا اختصَّ بنظير لها علي حال، وفيه نزل قوله تعالي في هذه المناسبة: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد)[9] .

وعقَّب الأستاذ عبدالکريم الخطيب في کتابه (علي بن أبي طالب) ـ

[صفحه 51]

علي تضحيته عليه السلام ومبيته علي فراش الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ليلة تآمرت قريش علي قتله ـ بقوله: وهذا الذي کان من عليٍّ عليه السلام ليلة الهجرة، إذا نظر إليه في مجري الأحداث التي عرضت للإمام عليٍّ عليه السلام في حياته بعد تلک الليلة، فإنَّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة، وإشارات دالّة علي أنَّ هذا التدبير الذي کان في تلک الليلة لم يکن أمراً عارضاً بالإضافة إلي عليٍّ عليه السلام بل هو عن حکمة لها آثارها ومعقباتها، فلنا أن نتساءل: أکان لإلباس الرسول صلي الله عليه وآله وسلم شخصيَّته لعليٍّ عليه السلام تلک الليلة ما يوحي بأنَّ هناک جامعة، تجمع بين الرسول وعليٍّ أکثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما؟ وهل لنا أن نستشفَّ من ذلک، أنَّه اذا غاب شخص الرسول کان عليٌّ عليه السلام هو الشخصية المهيَّأة لأن تخلفه وتمثل شخصه وتقوم مقامه.

وأحسب أنَّنا لم نتعسَّف کثيراً حين نظرنا إلي عليٍّ عليه السلام وهو في برد الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وفي مثوي منامه الذي اعتاد أن ينام فيه، وقلنا: هذا خليفة رسول الله والقائم مقامه.

وأضاف: إنَّ هذا الذي کان من عليٍّ عليه السلام ليلة الهجرة، في تحدِّيه لقريش هذا التحدِّي السافر، وفي استخفافه بها، وقيامه بينها ثلاثة أيام يغدو ويروح، إنَّ ذلک لا تنساه قريش لعليٍّ عليه السلام أبداً، ولولا أنَّها وجدت في قتله يومئذٍ إثارة فتنة تمزِّق وحدتها وتشتِّت شملها، دون أن يکون في ذلک ما يبلغ بها غايتها في محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم، لقتلته وشفت ما بصدرها منه، ولکنَّها ترکته وانتظرت الأيام لتسوّي حسابها معه.

ألا يبدو من هذه الموافقات، ما نستشفُّ منه أنَّ لعليِّ بن أبي طالب

[صفحه 52]

شأناً في رسالة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ودوراً في دعوة الإسلام، ليس لأحد غيره من صحابة الرسول؟[10] .

وأخرج الحاکم النيسابوري: أنَّ الإمام زين العابدين کان يقول: «إنَّ أول من شري نفسه ابتغاء رضوان الله عليُّ بن أبي طالب، قال علي عند مبيته علي فراش رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم:


وقيتُ بنفسي خيــر من وطــأ الحصي
ومن طاف بالبيت العتيــق وبالحجــر


رســول إلــه خـاف أن يمکـروا بـه
فنجَّــاه ذو الطــول الإله من المکـر


وبـات رسـول الله فـي الغــار آمنـاً
موقــي وفــي حفـظ الإلـه وفي ستر


وبتُّ أراعـيـهــم ولــم يتهموننــي
وقد وطنت نفسي علي القتل والأسر»[11] .



صفحه 47، 48، 49، 50، 51، 52.





  1. تاريخ اليعقوبي 2: 36.
  2. سورة الأنفال: 30.
  3. سورة يس: 1ـ 9.
  4. الکامل في التاريخ 2: 4.
  5. أمالي الشيخ الطوسي: 467 و1031، بحار الأنوار 19: 61ـ 62.
  6. تاريخ اليعقوبي 2: 39، الکامل في التاريخ 2: 103.
  7. الطبقات الکبري 1: 110.
  8. تاريخ اليعقوبي 2: 39، أُسد الغابة 4: 113.
  9. سورة البقرة: 207، وذکرها الرازي في تفسيره أنَّها نزلت بشأن مبيت عليٍّ عليه السلام علي فراش رسول الله.
  10. عن سيرة الأئمة الاثني عشر1: 168ـ 169، وأيضاً: علي سلطة الحق 26ـ 27، الامام علي1: 55ـ 56.
  11. المستدرک علي الصحيحين 3: 5.