شعب أبي طالب











شعب أبي طالب



اتخذت قريش شتي الأساليب لردع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأتباعه من المسلمين، ولمَّا أنّ رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفکير طويل علي قتل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وأجمع مَلَؤُها علي ذلک، وبلغ أبا طالب فقال:


والله لـن يصلـوا إليک بجمعهم
حتَّـي أُغيَّب في التراب دفينا


ودعوتنـي وزعمت أنَّک ناصِـحٌ
ولقد صدقت وکنت ثَمَّ أمينـاً


وعرضت دينــاً قد علمتُ بأنَّه
من خير أديان البرية دينا[1] .


ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر علي قتله، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، کتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ علي مقاطعة بني هاشم واتباعهم وحصرهم في مکان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألاّ يناکحوهم حتَّي يدفعوا إليهم محمَّداً صلي الله عليه وآله وسلم فيقتلوه، والا يموتوا جوعاً وعطشاً، وختموا علي الصحيفة بثمانين خاتماً.

وکان الذي کتبها منصور بن عکرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار، فشلَّت يده[2] وقيل. وقَّعها أربعون من زعماء مکَّة، ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الکعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين[3] ، وذلک في أول المحرم من السنة السابعة لمبعث النبي صلي الله عليه وآله وسلم وقيل: استمر نحواً

[صفحه 44]

من سنتين أو ثلاث[4] ، حتَّي أنفق رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلي حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتي اضطرتهم إلي أکل الأعشاب وورق الأشجار، ومع ذلک فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم ورعايته، حتَّي لا يتسلَّل أحد من المکِّيين ليلاً لاغتياله، وکانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.

جاء في تاريخ ابن کثير[5] : أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه علي حياة محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم أنَّه کان اذا أخذ الناس مضاجعهم في جوف الليل، يأمر النبي أن يضطجع علي فراشه مع النيّام، فإذا غلبهم النوم أمر أحد بنيه أو اخوته فأضجعهم علي فراش الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وأمر الرسول أن يضطجع علي فراشهم حرصاً منه عليه، حتَّي لو قدِّر لأحد أن يتسلَّل إلي الشعب ليلاً لاغتياله يکون ولده فداءً لابن أخيه.

وفي رواية ابن أبي الحديد أنَّه قرأ في أمالي أبي جعفر محمَّد بن حبيب: أنَّ أبا طالب کان إذا رأي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أحياناً يبکي، ويقول: إذا رأيته ذکرت أخي عبدالله، وکان عبدالله أخاه لأمِّه وأبيه.

وأضاف إلي ذلک أنَّه کثيراً ما کان يخاف عليه البيات ليلاً، فکان يقيمه ليلاً من فراشه ويضجع ابنه علياً مکانه، ومضي علي ذلک أيام الحصار وغيرها، وأحسَّ عليٌّ عليه السلام بالخطر علي حياته، ولکنَّه کان طيِّب النفس

[صفحه 45]

بالموت في سبيل محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم.

وقال لأبيه يوماً: «يا أبت أني مقتول»، فأوصاه بالصبر، وأنشد:


أصبرن يا بني فالصبر أحجي
کـلُّ حيٍّ مصيره لشعوب[6] .


قـدّر الله والبــلاء شـديـد
لفـداء الحبيب وابـن الحبيب


إن تصبک المنون فالنبل تبري
فمصيب منهـا وغير مصيب


کلُّ شيءٍ وإن تملَّـي بعمـر
آخذ من مذاقهـا بنصيب[7] .


وهذه الأبيات تؤکِّد إيمانه العميق برسالة محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم واستعداده لأن يضحّي بولده في سبيلها، ولقد أجابه ولده أمير المؤمنين عليه السلام بأبيات يرويها شارح النهج عنه تحمل نفس الروح التي کان يحملها أبوه، حيث يري أنَّ وجوده وحياته متمِّمان لحياة محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم ورسالته، لذلک لم يکن غريباً عليه أن يضحّي ويبذل حتي نفسه ليسلم محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم لرسالته، تلک التّضحية التي لم يعرف التاريخ أروع وأجمل منها.

يقول عليه السلام:


أتأمرني بالصبر في نصــر أحمـد
ووالله ما قلت الــذي قلت جازعا


ولکنَّني أحببت أن تــري نصرتـي
وتعلـم أنِّي لــم أزل لـک طائعا


سأسعي لوجه الله فـي نصــر أحمد
نبي الهدي المحمود طفلاً ويافعا[8] .


فنزل جبريل علي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأخبره أنَّ الله سبحانه وتعالي أرسل علي صحيفة المقاطعة دودة الأرضة أکلت ما فيها من ظلم وقطيعة

[صفحه 46]

رحم، وترکت ما فيها من أسماء الله تعالي. فقال النبيُّ صلي الله عليه وآله وسلم لعمِّه أبي طالب وکلِّ من في الشعب، حتَّي صاروا إلي الکعبة الشريفة، واجتمع الملأ من قريش من کلِّ أوب فقالوا: قد آن لک أن تذکر العهد وتدع «اللجاج في ابن أخيک»!

وقال لهم: إنَّ ابن أخي أخبرني أنَّ الله تعالي أرسل علي صحيفتکم الأرضة، فأکلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم، وترکت اسم الله تعالي، فإن کان کاذباً سلَّمته إليکم لتقتلوه، وعلمنا أنَّکم علي حقٍّ، ونحن علي باطل، وإن کان صادقاً علمتم أنَّکم ظالمون لنا، قاطعون لأرحامنا. فقالوا: قد أنصفتنا.

وقاموا سراعاً وأحضروها وإذا الأمر کما قال أبو طالب، فبهتوا ونکسوا رؤوسهم ثُمَّ قالوا: إنَّ هذا لسحر وبهتان!!

فقويت نفس أبي طالب واشتدَّ صوته، وقال: «قد تبيَّن لکم أنَّکم أولي بالظلم والقطيعة»[9] .



صفحه 44، 45، 46.





  1. تاريخ اليعقوبي 2: 31.
  2. نفس المصدر.
  3. نفس المصدر.
  4. الکامل في التأريخ 1: 604.
  5. البداية والنهاية 3: 84، بتصرف.
  6. الشعوب: المنية.
  7. شرح نهج البلاغة 14: 64 بتصرف.
  8. نفس المصدر.
  9. الکامل في التاريخ 1: 606.