علي يوم الإنذار الأول











علي يوم الإنذار الأول



بُعثَ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وهو يضع في حسابه أنَّ دعوته ستجابه بالرفض والتحدِّي دون أدني شکٍّ، فعرب الجاهلية تشرَّبت قلوبهم بعبادة الأوثان، ورسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تشغله هموم التبليغ، وخاصة انَّه کان يتمنَّي أن يسارع في الاستجابة له أهله وعشيرته، وکلُّ من يتَّصل به بنسب أو سبب، لأنَّهم آله وعشيرته الذين يشکِّلون قوة مکينة، لمکانتهم المرموقة في داخل مکَّة وخارجها، فسيعود عليه إسلامهم بالنصر حتماً، فيصبح مرهوب الجانب وفي منعةٍ من الأعداء الألدَّاء، وهذه وسيلة متينة لتثبيت دعائم دعوته.

ومع کلِّ تمنِّياته تلک کان يخشي أيضاً أن يرفضوا دعوته إذا دعاهم

[صفحه 37]

لدين التوحيد، فينضمُّوا إلي غيرهم من الأعداء والمکذِّبين والمستهزئين ببعثته صلوات الله وسلامه عليه..

في تلک اللحظات الحاسمة دوّي صوت جبرئيل ليملأ أُذني النبي بالنذارة، مبلِّغاً عن الله عزَّ اسمه قوله: (وَأنذِرْ عَشِيرَتَکَ الاَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَکَ لِمَنِ اتَّبَعَکَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإنْ عَصَوْکَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُون).[1] ألقاها علي عاتقه الشريف، وليس له مناصر ومعين غير نفر قليل مستخفّين بإيمانهم، وکان هذا الحدث بعد مبعثه الشريف بثلاث سنين.

قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحکم: «لمَّا أنزل الله علي رسوله (وَأنذِرْ عَشِيرَتَکَ الاَقْرَبِين) اشتدَّ ذلک عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته کالمريض، فأتته عمَّاته يعُدنه، فقال: «ما اشتکيتُ شيئاً، ولکن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين»»..[2] .

بعد ذلک عزم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم امتثالاً لأوامر الله تعالي علي إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلي الله، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب، وکانوا أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وکان قد قال لعلي عليه السلام: «اصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن»، قال علي عليه السلام وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه: «وإنَّ منهم

[صفحه 38]

من يأکل الجذعة ويشرب الفرق»[3] ، وأراد عليه السلام بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا کان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه[4] .

فقال صلي الله عليه وآله وسلم: «أرأيتم لو أخبرتکم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أکنتم مصدقي؟» قالوا: بلي، أنت عندنا غير متهم، وما جرَّبنا عليک کذباً، فقال: «أني نذير لکم من بين يدي عذاب شديد» فقطع کلامه عمه أبو لهب، وقال: تباً لک! ألهذا جمعتنا؟! ثم عاد فجمعهم ثانية، فأعاد أبو لهب مثل قولته الاولي، فتفرّقوا، فأنزل الله تعالي عليه (تبت يدا أبي لهب وتب)[5] الي آخر السورة المبارکة.

ثم جمعهم مرَّةً أُخري ليکلِّمهم، وفيهم أعمامه: أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو لهب، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته، فأحضر عليٌّ عليه السلام لهم الطعام ووضعه بين أيديهم، وکان بإمکان الرجل الواحد أن يأکله بکامله، فتهامسوا وتبادلوا النظرات الساخرة من تلک المائدة التي لا تقوم حسب العادة لأکثر من رجلين أو ثلاثة رجال، ثم مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأکلون، ولا يبدو عليها النقص حتَّي شبعوا، وبقي من الطعام مايکفي لغيرهم.

فلمَّا أکلوا وشربوا قال لهم النبيُّ صلي الله عليه وآله وسلم: «يا بني عبدالمطَّلب، والله

[صفحه 39]

ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتکم به، إنِّي جئتکم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالي أن أدعوکم إليه» ثمَّ عرض عليهم أصول الإسلام وقال: «فأيُّکم يؤازرني علي هذا الأمر، علي أن يکون أخي ووصيِّي، وخليفتي فيکم من بعدي»؟.

فلم يجب أحد منهم، فأعاد عليهم الحديث ثانياً وثالثاً، وفي کلِّ مرَّةٍ لايجيبه أحد غير عليٍّ عليه السلام، قال عليٌّ: ـ والرواية عنه ـ «فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً ـ: أنا يا نبيَّ الله أکون وزيرک عليه، فأخذ برقبتي، ثُمَّ قال: إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيکم، فاسمعوا له وأطيعوا».

قال: «فقام القوم يضحکون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرک أن تسمع لابنک وتطيع».[6] فقال أبو لهب: خذوا علي يَدَي صاحبکم قبل أن يأخذ علي يده غيرکم، فإن منعتموه قُتلتم، وإن ترکتموه ذللتم.

فقال أبو طالب: يا عورة، والله لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلي ربِّک فأعلمنا حتَّي نخرج معک بالسلاح[7] .

ومن بين جميع الأهل والأقارب کان محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم شديد الحزن والمرارة، فقد کان وحيداً، وکان يتمنَّي مناصرة قومه له علي قوي الشرک المدجَّجة بالمال والسلاح، لکنَّ عليَّاً عليه السلام کان قوماً له رغم صغر سنه،

[صفحه 40]

وشاءت الأقدار أن ينصر أخاه بسلاحه «فأنا حربٌ علي من حاربت»، بهذه التلبية أثمر الاصطفاء، وأُرسيت دعائم الإسلام فوق جماجم الشرک..

وهذا البيان الصريح في علي عليه السلام: «أخي، ووصي، وخليفتي من بعدي» لابد أن يجد من يبذل کل جهد للالتفاف عليه إما بالتغييب، وإما بالتکذيب، واما بالتأويل...

ذکر الشيخ محمَّد جواد مغنية في کتابه (فلسفة التوحيد والولاية) ـ بعد أن ذکر المصادر الأساسية لهذه الواقعة ـ: أنَّ من الذين رووا نصَّ النبيِّ صلي الله عليه وآله وسلم علي عليٍّ عليه السلام بالخلافة ـ عندما دعا عشيرته وبلَّغهم رسالة ربِّه ـ: محمَّد حسين هيکل في الطبعة الأولي من کتابه (حياة محمَّد)، ومحمَّد عبدالله عنان في کتابه (تاريخ الجمعيات)، ولکنَّ هيکل ـ في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات ـ قد مسخ الحديث المذکور وحرَّف منه کلمة «خليفتي من بعدي» في مقابل خمسمائة جنيه، أخذها من جماعة ثمناً لهذا التحريف[8] .

أمَّا ابن کثير فقد ذکر القصَّة بتفاصيلها ـ ولکن بقصد تکذيبها ـ إلي أن قال: فقال صلي الله عليه وآله وسلم: «أيُّکم يؤازرني علي هذا الأمر، علي أن يکون أخي» وکذا وکذا؟.

قال عليٌّ ـ عليه السلام ـ: «فأحجم القوم جميعاً، وقلت ـ وإنِّي لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبيَّ الله أکون وزيرک

[صفحه 41]

عليه، فأخذ برقبتي، فقال: إنَّ هذا أخي ـ وکذا وکذا ـ فاسمعوا له وأطيعوا»![9] .

ثم قال: «تفرّد به عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم، وهو کذَّاب شيعي، اتهمه عليُّ بن المديني بوضع الحديث وضعَّفه الباقون»[10] .

ثمَّ يضيف ـ في الصفحة ذاتها ـ قائلاً: «ولکن روي ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه، عن الحسين بن عيسي بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبدالقدُّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن عبدالله بن الحارث قال: قال عليٌّ عليه السلام: «لمَّا نزلت هذه الآية: (وَأنذِرْ عَشِيرَتَکَ الاَقْرَبِين)[11] قال لي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إصنع لي شاةً بصاع من طعام، وإناء لبناً، وادعُ لي بني هاشم؛ فدعوتهم وإنَّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل» فذکر القصَّة إلي قوله: «فبدرهم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم الکلام، فقال: أيُّکم يقضي عنِّي دَيني، ويکون خليفتي في أهلي»؟

فسکتوا وسکت العبَّاس، خشية أن يحيط ذلک بماله، وسکتُّ أنا لسنِّ العبَّاس.

ثمَّ قالها مرَّةً أُخري، فسکت العبَّاس، فلمَّا رأيت ذلک، قلت: أنا يا رسول الله.

قال: أنت؟!

قال: وإنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئةً، وإنِّي لأعمش العينين، ضخم البطن،

[صفحه 42]

حمش الساقين!»»[12] .

فلنتناول هذا الکلام من جميع وجوهه، لنعرف أين محله:

1 ـ فأمَّا عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم، الذي طعن عليه، فقد وصفه ابن حجر العسقلاني، فقال: کان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال ـ قال ـ وقال شعبة: لم أرَ أحفظ منه، وقال ابن عدي: سمعت ابن عقدة يثني عليأبي مريم ويطريه وتجاوز الحدَّ في مدحه، حتي قال: لو ظهر علي أبي مريم ما اجتمع الناس إلي شعبة.

أمَّا تضعيفهم له فإنَّما جاء من وصفه بالتشيُّع، قال ابن حجر[13] ـ في ترجمته ذاتها ـ: قال البخاري: عبدالغفَّار بن القاسم ليس بالقويِّ عندهم، حدَّثنا أحمد بن صالح حدَّثنا محمَّد بن مرزوق، حدَّثنا الحسين بن الحسن الفزاري، عن عبدالغفَّار بن القاسم، عن عَدي بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، قال حدَّثني بُريدة: قال صلي الله عليه وآله وسلم: «عليٌّ مولي من کنت مولاه»!! ـ فمن هنا جاء طعنهم عليه.

2ـ وأمَّا قوله: إنَّ الحديث فيه عبدالغفَّار بن القاسم، فقد ورد الحديث من طرق أُخري ليس فيها عبدالغفَّار کما في (مسند أحمد) و(الخصائص) للنسائي، و(تاريخ الطبري) و(تاريخ دمشق) و(شواهد التنزيل)[14] .

[صفحه 43]



صفحه 37، 38، 39، 40، 41، 42، 43.





  1. سورة الشعراء: 214.
  2. الکامل في التاريخ 1: 584.
  3. تاريخ اليعقوبي 2: 27.
  4. الإرشاد 1: 49.
  5. سورة المسد: 1.
  6. تاريخ الطبري 2: 217، معالم التنزيل في التفسير والتأويل، البغوي 4: 278، الکامل في التاريخ 1: 586، الترجمة من تاريخ ابن عساکر 1: 100 و137 و138 و139، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاکم الحسکاني الحنفي ـ تحقيق محمَّد باقر المحمودي ـ مؤسسة الأعلمي بيروت 1: 372ـ 373 و514 و420 و580، کنز العمَّال 13: 131 و36469.
  7. تاريخ اليعقوبي 2: 27ـ 28.
  8. أنظر سيرة المصطفي ـ نظرة جديدة، هاشم معروف الحسني، منشورات الشريف الرضي: 130، وکذا ذکره في کتابه سيرة الأئمة الاثني عشر 1: 157، وأضاف قائلاً: بعد أن ساوموه علي شراء ألف نسخة من الکتاب فوافق علي ذلک، ورواه في ط2 وما بعدها بدون کلمة «خليفتي من بعدي».
  9. البداية والنهاية 3: 40.
  10. نفس المصدر.
  11. الشعراء: 26.
  12. نفس المصدر.
  13. لسان الميزان، ابن حجر 4: 42 ط مؤسسة الأعلمي.
  14. اُنظر: مسند أحمد 1: 159، الخصائص: 18، تاريخ الطبري 2: 219، ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق 1: 99 و137، شواهد التنزيل 1: 420 و 580. وراجع منهج في الانتماء المذهبي، الأستاذ صائب عبدالحميد: 80ـ 83.