نشأته











نشأته



کلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال، فيأخذ من الأب والأمِّ مايکوِّن به شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليه السلام معروف النسب، فهو ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والکرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ، عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.

کما هيَّأ الله سبحانه الأسباب لعليٍّ ليکون أکثر الناس قرباً من النبي صلي الله عليه وآله وسلم وأخصِّهم به.. بل ليکون النبيُّ أقرب إليه من أبيه وأخوته، ففي الثامنة من عمر علي عليه السلام ـ وربما کان حوالي عام 606 م ـ دخلت قريش أزمة شديدة طاحنة، وسنة مجدبة منهکة، شحَّت فيها موارد العيش، وکان وقعها علي أبي طالب شديداً، إذ کان ذا عيال کثير وقلَّة من المال لا يفي

[صفحه 28]

بنفقة رجل مثله، فعند ذاک قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لعمَّيه الحمزة والعبَّاس: «ألا نحمل ثقل أبي طالب، ونخفِّف عنه عياله؟»

فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده ليکفوه أمرهم، فقال لهم: دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم عليَّاً عليه السلام[1] .

وانتقل عليٌّ عليه السلام وهو في مطلع صباه إلي کفيله محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم، فرُبِّي في حجر النبي صلي الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه، وکانت فاطمة بنت أسد کالأُمِّ للنبي صلي الله عليه وآله وسلم، وکذلک کانت خديجة بنت خويلد کالأُمِّ لعليٍّ عليه السلام.

فنشأ عليٌّ عليه السلام في بيت النبي صلي الله عليه وآله وسلم يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلک من الشرف ما لم يحزه غيره.. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق والتربية الروحية والفکرية، وکذا دقائق الحکمة والمعرفة، حتَّي أدرک من الحقائق ما لم يدرکه بعد رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أحد غيره، حتي تطبّع بصفات کافله، ولم تکن فيه صفة الا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنکره قلب محمَّد صلي الله عليه وآله وسلم الا وأنکره قلب عليٍّ عليه السلام، وکان هذا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وآله وسلم.

وأدرک التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق الکون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود، وأصبح المثل الأعلي في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّي بأعلي ذروة من ذري الکمال الروحي والأخلاقي.

[صفحه 29]

ووصف عليه السلام تلک الأيام القيِّمة مبيّنا فضلها واختصاصه بها علي من سواه، فقال:

«وقد علمتم موضعي من رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلي صدره.. وکان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي کذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد کنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في کلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد کان يجاور في کلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أري نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة. ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلي الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ما هذه الرَّنَّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيِسَ من عبادَتِهِ. إنَّک تسمعُ ما أسمعُ، وتري ما أري، إلاّ أنَّکَ لَسْت بِنَبِيٍّ، ولکنَّکَ لَوزيرٌ وإنَّک لَعَلَي خيرٍ...»[2] .

[صفحه 30]



صفحه 28، 29، 30.





  1. الکامل في التاريخ 1: 582.
  2. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح الخطبة 192 بتصرف.