رفع المصاحف..











رفع المصاحف..



«کلمة حقٍّ يُراد بها باطل»

لمَّا رأي عمرو أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاک، قال لمعاوية: هل لک في أمرٍ أعرضه عليک، لا يزيدنا الا اجتماعاً، ولا يزيدهم الا فرقةً؟

قال: نعم.

قال: نرفع المصاحف، ثُمَّ نقول: هذا حکم بيننا وبينکم.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا کتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينکم، مَنْ لثغور الشام بعد أهله؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهله؟

فلمَّا رآها الناس قالوا: نجيب إلي کتاب الله.

فقال لهم عليٌّ عليه السلام: «عباد الله امضوا علي حقِّکم وصدقکم وقتال عدوِّکم، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاک ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرَف بهم منکم، قد صحبتهم أطفالاً ثُمَّ رجالاً، فکانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، ويحکم والله ما رفعوها الا خديعةً ووهناً ومکيدة».

فقالوا له: لا يسعنا أن نُدعي إلي کتاب الله فنأبي أن نقبله!

فقال لهم عليٌّ عليه السلام: «فإنِّي إنَّما أُقاتلهم ليدينوا لحکم الکتاب، فإنَّهم قد عصو الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا کتابه».

[صفحه 211]

فقال له جماعة من المسلمين، الذين صاروا خوارج بعد ذلک: يا عليُّ، أجب إلي کتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه، والا دفعناک برمَّتک إلي القوم، أو نفعل بک ما فعلنا بابن عفَّان!

قال: «فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاکم، واحفظوا مقالتکم لي، فإن تطيعوا فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لکم»[1] .

لم تکن بينهم وبين معاوية الا بضعة أمتار، فلولا وقوع هؤلاء في الفخ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام عليه السلام أن يسيطر علي الموقف ويستأصل رأس الفتن، ولکنَّ مسألة التحکيم غيَّرت مجري الأُمور إلي أسوأ حال، فحالت دون تحقيق الهدف المنشود، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات!

ثمَّ قالوا للإمام: ابعث إلي الأشتر فليأتکَ، فرجع الأشتر مغضباً بعدما أوشک علي النصر، فأقبل إليهم الأشتر، وقال: يا أهل العراق! يا أهل الذلِّ والوهن! أحين علوتم القومَ وظنُّوا أنَّکم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونکم إلي ما فيها، وهم والله قد ترکوا ما أمر الله به فيها وسُنَّة مَنْ أُنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً، فإنِّي قد أحسستُ الفتح[2] .

لکنَّهم أبوا الا التحکيم!

وجعل أهل الشام عمرو بن العاص علي التحکيم، وأراد الإمام عليه السلام أن يجعل عبدالله بن عبَّاس، لکنَّهم أبوا الا أبا موسي الأشعري، ولمَّا رأي أنه لاتنفع معهم حجَّة حکَّمه علي مضض!

[صفحه 212]

وحضر عمرو بن العاص عند عليٍّ عليه السلام ليکتب القضية بحضوره، فکتبوا:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضا عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو: اکتب اسمه واسم أبيه، هو أميرکم وأمَّا أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمحُ اسم إمارة أمير المؤمنين، فإنِّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليه أبداً، فلا تمحُها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبي ذلک عليٌّ عليه السلام ملياً من النهار.

ثُمَّ إنَّ الأشعث بن قيس قال: امحُ هذا الاسم، فمُحي، فقال عليٌّ: «الله أکبر! سُنَّة بسُنَّة، والله إنِّي لکاتب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، يوم الحديبية فکتبتُ: محمَّد رسول الله، وقالوا: لستَ برسول الله، ولکن اکتب اسمک واسم أبيک، فأمرني رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بمحوه، فقلتُ: لا أستطيع، فقال: أرنيه، فأريته، فمحاها بيده، وقال: إنَّک ستُدعي إلي مثلها فتجيب».

فقال عمرو: سبحان الله! أتشبِّهنا بالکفَّار ونحن مؤمنون!

فقال عليٌّ عليه السلام: «يا ابن النابغة، ومتي لم تکن للفاسقين ولياً، وللمؤمنين عدوّاً؟»

فقال عمرو: والله، لا يجمع بيني وبينک مجلس بعد هذا اليوم أبداً.

فقال عليٌّ عليه السلام: «إنِّي لأرجو أن يطهِّر الله مجلسي منک ومن أشباهک»..[3] .

وتمّت کتابة الکتاب بجعل کتاب الله الحاکم في کلِّ الأُمور، وما لم يجد في کتاب الله فالسُنَّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة.. واُجِّل القضاء إلي رمضان.

[صفحه 213]

ولمَّا انتهت مسألة التحکيم، قال نفرٌ من أصحاب الإمام: کيف تُحکِّمون الرجال في دين الله؟! لا حکم الا لله، وکانوا يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم «لا حکم الا لله» لذلک سُمُّوا بالمحکِّمة. فکانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً.. فنزلوا في ناحية يُقال لها: «حروراء» لأجلها سُمُّوا بالحرورية..

فحاججهم الإمام عليه السلام بقوله الأوَّل قبل التحکيم، ثُمَّ قال لهم: «قد اشترطتُ علي الحکمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات القرآن، فإن حکما بحکم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حکمهما براء».

قالوا: أتراه عدلاً تحکيم الرجال في الدماء؟

قال: «إنَّا لسنا حکَّمنا الرجال، إنَّما حکَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق، إنَّما يتکلَّم به الرجال»[4] ثمَّ رجعوا مع الإمام عليه السلام.

فلمَّا التقي الحکمان: أبو موسي الأشعري وعمرو بن العاص، وخُدِع أبو موسي؛ إذ مکر به عمرو، قال له: أنت صاحب رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم وأسنُّ منِّي فتکلَّم، وأراد عمرو بذلک کلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ، قال له: نخلع عليَّاً ومعاوية معاً، ونجعل الأمر شوري، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.

فتقدَّم أبو موسي فأعلن علي الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّي. وأقبل عمرو فقام، وقال: إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه

[صفحه 214]

وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه کما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية![5] فدُهش أبو موسي وشتم عمرو وشتمه عمرو، وانفضَّ التحکيم عن هذه النتيجة!

والتمس المسلمون أبا موسي فهرب إلي مکَّة، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام الي معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.

مع هذه النتيجة عاد عليّ عليه السلام يعمل علي إعادة نظم جيشه، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب مع أهل الغدر، ولکن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه..

قام يوماً خطيباً بين أصحابه، فقام إليه رجل من اُولئک «المحکمّة» فقال: لا حکم الا لله! ثُمَّ توالي عدَّة رجال يحکِّمون. فقال عليٌّ عليه السلام: «الله أکبر، کلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل! أما إنَّ لکم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعکم مساجد الله أن تذکروا فيها اسمه، ولا نمنعکم الفيء مادامت أيديکم في أيدينا، ولا نقاتلکم حتي تبدأوا، وإنَّما نتّبع فيکم أمر الله»..[6] .

بهذه الأخلاق النبيلة تعامل الإمام مع المارقين، ورغم ذلک فقد مضوا علي غيّهم، فاعتزلوا بقيادة عبدالرحمن بن وهب الراسبي، ثمَّ خرجوا من الکوفة.

فبايع المسلمون الإمام عليَّاً عليه السلام وقالوا: «نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت» فشرط فيهم سُنَّة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، وجاء دور صاحب راية

[صفحه 215]

خثعم، ربيعة بن أبي شداد فقال له: «بايع علي کتاب الله وسُنَّة رسوله صلي الله عليه وآله وسلم»، فأبي بأن يبايع الا علي سُنَّة أبي بکر وعمر! فقال له عليٌّ عليه السلام حين ألحَّ عليه: تبايع؟ قال: لا، الا علي ما ذکرتُ لک.

فقال له الإمام: «أما والله، لکأنِّي بک قد نفرت في هذه الفتنة، وکأنِّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهک»! قال قبيصة: فرأيته يوم النهروان قتيلاً قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثَّلت به، فذکرت قول عليٍّ، وقلت: لله درُّ أبي الحسن، ما حرَّک شفتيه قط بشيءٍ الا کان کذلک![7] .

وکان همُّ الإمام عليه السلام في العود إلي محاربة معاوية، فعبَّأ جنده، لکنَّه وبعد ذلک کلِّه لم يترک «المحکِّمة» فکتب إليهم کتاباً جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله عليٍّ أمير المؤمنين إلي عبدالله بن وهب الراسبي ويزيد بن الحصين ومن قبلهما: سلام عليکم، وبعد، فإنَّ الرجلين اللذين ارتضيتماهما للحکومة خالفا کتاب الله واتَّبعا هواهما بغير هديً من الله، فلمَّا لم يعملا بالسُنَّة ولم يحکما بالقرآن تبرَّأنا من حکمهما، ونحن علي أمرنا الأوَّل، فأقبلوا إليَّ رحمکم الله، فإنَّا سائرون إلي عدوِّنا وعدوِّکم لنعود لمحاربتهم، حتي يحکم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاکمين»[8] .

وردُّوا علي هذا الخطاب الحکيم المتَّزن بخطابٍ ينمُّ عن شدَّة تعسُّفهم وردِّهم المارق، فکتبوا إليه: «. فإن شهدت علي نفسک أنَّک کفرت في ما کان من تحکيمک الحکمين، واستأنفت التوبة والإيمان، نظرنا في مسألتنا من

[صفحه 216]

الرجوع إليک، وإن تکن الأُخري فإنَّنا ننابذک علي سواء، إنَّ الله لا يهدي کيد الخائنين»[9] .

فلمّا يئس منهم تحرَّک بجيشه صوب الشام، حتي بلغ منطقةً في أعالي الفرات تُدعي «عانات» فأتته أخبار فضيعة عن الخوارج، إذ أصبحوا يعترضون الناس فيقتلونهم دون أدني ذنبٍ، الا لأنَّهم لم يتبرَّأوا من عليٍّ ولم يکفِّروه لما حدث! حتي أنَّهم أقبلوا أخيراً إلي قتل عبدالله بن خباب بن الأرت الصحابي الشهير، وقتلوا معه امرأته وبقروا بطنها وهي حامل، وقتلوا عدَّة نساءٍ، وبثُّوا الرعب في الناس.

فبعث إليهم أمير المؤمنين الحارث بن مرَّة العبدي ليأتيه بخبرهم، فأخذوه فقتلوه.[10] فتمخَّضت تلک الأحداث عن معرکة النهروان الشهيرة..



صفحه 211، 212، 213، 214، 215، 216.





  1. أنظر: الکامل في التاريخ 3: 192ـ 193، وسير أعلام النبلاء 2: 264 مختصراً.
  2. الکامل في التاريخ 3: 317ـ 318.
  3. الکامل في التاريخ (انظر تفصيل الکتاب) 3: 195، وانظر سير أعلام النبلاء 2: 281.
  4. الکامل في التاريخ 3: 203.
  5. الکامل في التاريخ 3: 208، سير أعلام النبلاء 2: 270ـ 271.
  6. الکامل في التاريخ 3: 212ـ 213، البداية والنهاية 7: 315ـ 316.
  7. الإمامة والسياسة 1: 125ـ 126، الکامل في التاريخ 3: 216 باختلافٍ يسير.
  8. الإمامة والسياسة 1: 123.
  9. الکامل في التاريخ 3: 216، الأخبار الطوال: 206.
  10. أنظر: الکامل في التاريخ 3: 219، البداية والنهاية 7: 318ـ 319.