علي في طريقه إلي الشام، وحرب صفِّين











علي في طريقه إلي الشام، وحرب صفِّين



لمَّا انتهت فتنة الجمل استعدَّ الإمام إلي حرب معاوية، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الکوفة، فقد کان قسم کبير منهم قد اشترکوا معه في معرکة الجمل، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.

ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين قد أرسل إلي معاوية السفراء والکتب

[صفحه 206]

يدعوه الي الطاعة والدخول فيما دخل المسلمون من قبله، لکنَّه لم يستجب لطلبه، بل أظهر الشدَّة والصلافة في ردِّه علي رسائل الإمام، واختار القتال علي الصلح والمسالمة.

في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين خبره جهَّز جيشه، واتَّجه نحو الزحف، ليقطع عليهم الدخول إلي أرض العراق، لما في ذلک من قتل ونهب وفساد کبير.. فکان من ذلک حرب صفِّين، وبالشعار السابق نفسه: «دم عُثمان»!

فتمرَّدوا وأعدُّوا العدَّة لمحاربة إمام المتَّقين.. فهم لم يخرجوا في طلب الثأر لعثمان، بل کان خروجهم ضدَّ الإمام، وضدَّ الإسلام کلِّه، والثأر لأنفسهم، ونري ذلک واضحاً من کلام ابن العاص مع معاوية علي الشعار المزيَّف، حيث قال عمرو بن العاص لمعاوية:

واسوأتاه! إنَّ أحقَّ الناس الا يذکر عُثمان لا أنا ولا أنت!

قال معاوية: ولِمَ ويحک؟!

قال: أمَّا أنت فخذلته ومعک أهل الشام! وأمَّا أنا فترکته عياناً وهربتُ إلي فلسطين!

وقال له: أما والله، إن قاتلنا معک نطلب دم الخليفة، إنَّ في النفس ما فيها، حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولکنَّنا أردنا هذه الدنيا!![1] فأيُّ مکرٍ هذا الذي رأيناه من کلامهما؟! علي مثل ذلک أعدُّوا العدَّة

[صفحه 207]

لمحاربة الخليفة الجديد، فهؤلاء هم القاسطون الذين کرهوا خلافة الإمام عليٍّ عليه السلام.

ووصل الإمام إلي صفِّين في ذي القعدة، وابتدأت الحرب في أوَّل ذي الحجَّة سنة 36هـ، وحصلت الهدنة في المحرم سنة 37 هـ، واستؤنف القتال في أوَّل صفر، وانتهي في 13 منه[2] ، وعسکر الإمام بالنُخيلة، وعقد لواءه لغلامه قنبر.

ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين، وأخذ شريعة الفرات، وجعلها في حيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها.. وبعث أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان إلي معاوية، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء، فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فبعضهم قال: امنعهم الماء، کما منعوه ابن عفَّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله، لکنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء، فرجع صعصعة فأخبره بما کان، وأنَّ معاوية قال: سيأتيکم رأيي، فسرَّب الخيل إلي أبي الأعور ليمنعهم الماء.

ولمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلک قال: «قاتلوهم علي الماء»، فأرسل کتائب من عسکره، فتقاتلوا واشتدَّ القتال، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ، حتي خلَّوا بينهم وبين الماء، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ عليه السلام.

فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام!

فأرسل عليٌّ عليه السلام إلي أصحابه أن: «خذوا من الماء حاجتکم وخلُّوا عنهم، فإنَّ الله نصرکم بغيِّهم وظلمهم»[3] .

[صفحه 208]

بهذا الخُلق الکريم عامل أمير المؤمنين عليه السلام أشدَّ مناوئيه..

ثمّ دعا عليّ عليه السلام جماعة من قادة جنده، فقال لهم: «ائتوا هذا الرجل وادعوه إلي الله والي الطاعة والجماعة».

ففعلوا ما أمرهم به، لکنَّ معاوية قال لهم بعد أن سمع کلامهم: انصرفوا من عندي، فليس بيني وبينکم الا السيف، وغضب القوم، وخرجوا، فأتوا عليَّاً عليه السلام فأخبروه بذلک..

واحتدم القتال بين الطرفين، فاقتتلوا يومهم کلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ عليه السلام بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر، ولمَّا برز لعمر بن العاص قال عمَّار: «لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ثلاث مرّات، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقي»[4] يعني: راية معاوية.

وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني: قلتُ لحذيفة بن اليمان: حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.

فقال: عليکم بالفئة التي فيها ابن سُميَّة، فإنَّ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم، قال: «تقتله الفئة الباغية الناکبة (الناکثة) عن الطريق، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن»، وهو الممزوج بالماء من اللبن، قال حبَّة: فشهدته يوم قُتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ـ فقال:


اليوم ألقي الأحبَّة
محمَّداً وحزبه

[صفحه 209]

والله لو ضربونا حتي يبلغوا بنا سعفات هجر؛ لعلمت أنَّنا علي الحقِّ وأنَّهم علي الباطل، ثم قُتل[5] رضي الله عنه وأرضاه..

وقد تضعضع الکثيرون من أتباع ابن أبي سفيان لموقف عمَّار، لأنَّ مقولة رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فيه لم تکن خافيةً علي أحدٍ من الناس: «فطوبي لعمَّار تقتله الفئة الباغية، عمَّار مع الحقِّ يدور معه کيفما دار» وهذا کلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ صلي الله عليه وآله وسلم.

وکان ذو الکلاع قد سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم لعمَّار بن ياسر: «تقتلک الفئة الباغية، وآخر شربةٍ تشربها ضَياح من لبن»، فکان ذو الکلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحک يا عمرو؟ فيقول عمرو: إنَّه سيرجع إلينا.

فقُتل ذو الکلاع قبل عمَّار مع معاوية، وأُصيب عمَّار بعده مع عليٍّ عليه السلام.

فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيُّهما أنا أشدُّ فرحاً، بقتل عمَّار أو بقتل ذي الکلاع؟ والله لو بقي ذو الکلاع بعد قتل عمَّار لمال بعامَّة أهل الشام إلي عليٍّ[6] ، فأشرق وجه معاوية لذلک!

ولمَّا قُتل عمَّار، قال عليٌّ لربيعة وهمدان: «أنتم درعي ورمحي» فانتدب له نحو من اثني عشر عليه السلام وتقدَّمهم عليٌّ علي بغلة، فحملوا معه حملة رجلٍ واحدٍ، فلم يبقَ لأهل الشام صفٌّ الا انتقض، وقتلوا کلَّ من انتهوا إليه.. حتي رأوا الظفر.

[صفحه 210]

واستمرَّ القتال ليلةً کاملة حتي الصباح. فتطاعنوا حتي تقصَّفت الرماح، وتراموا حتي نفد النبل، وکان الأشتر في الميمنة وابن عبَّاس في الميسرة وعليٌّ عليه السلام في القلب، والناس يقتتلون من کلِّ جانبٍ، حتي أصبحوا والمعرکة خلف أظهرهم.



صفحه 206، 207، 208، 209، 210.





  1. انظر: الکامل في التاريخ 3: 163ـ 172، تاريخ اليعقوبي 2: 184ـ 186، شرح نهج البلاغة 2: 62ـ 66.
  2. فضائل الإمام عليٍّ: 142.
  3. أنظر: الکامل في التاريخ 3: 167، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين): 267 مختصراً.
  4. الکامل في التاريخ 3: 187 وانظر سير أعلام النبلاء 2: 265.
  5. الکامل في التاريخ 3: 188.
  6. الکامل في التاريخ 3: 188.