وليد الکعبة
هکذا کان مولد عليِّ بن أبي طالب سلام الله عليه، في البيت العتيق في الکعبة الشريفة. وکان ذلک يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر الله الأصمّ رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة.[1] قبل البعثة بعشر سنين[2] حوالي عام 600 م (23 قبل الهجرة)، وقيل: «ولد سنة ثمان وعشرين من عام الفيل»[3] . ولعلّه في مثل هذا اليوم الذي وُلِد فيه أمير المؤمنين، قد وُلِد الألوف من البشر، لکنَّ ولادته مثَّلت حدثاً عجيباً تجلَّت به الأسرار، وتلبَّست بالحکمة الربَّانية. کانت مثاراً للدهشة الأبدية، فقد وضعت فاطمة وليدها في البيت العتيق! في مکان عبادة لا ولادة، أليس ذلک بالشيء العظيم؟! ويسجل التاريخ ذاک الفخر الذي ظهر فيه عليٌّ عليه السلام مديراً ظهره للأصنام التي کانت الکعبة الشريفة تضجُّ بها، وعن قريب سينهض هذا [صفحه 21] الوليد علي کتف رسول الله ليلقي بها أرضاً، تحت بطون الأقدام!! تلک ولادة أکرمه الله بها، فشارکته أمُّه الکريمة في فخرها.. إنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد لمَّا ضربها الطلق، جاءت متعلِّقة بأستار الکعبة الشريفة، من شدة المخاض، مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله، فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض؛ فألصقت نفسها بجدار الکعبة وأخذت تقول: «يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بک وبما جاء من عندک من رسل وکتب، وإنِّي مصدِّقة بکلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بني البيت العتيق، فبحقِّ الذي بني هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني الا ما يسرت عليَّ ولادتي». قال يزيد بن قعنب: فرأيت البيت قد انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلي حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلک من أمر الله تعالي، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلي يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام[4] . وهو حديث جدير کذلک أن يخلّده الشعراء: أنشد الحميري (ت 173 هـ): وَلدَتْهُ في حرم الإلـه وأمنـه بيضاء طاهرة الثياب کريمـة ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه [صفحه 22] وله أيضاً في أمير المؤمنين عليه السلام: طبـتَ کهلاً وغلاماً ولدي الميثاق طينـاً وببطن البيت مولوداً وقال عبدالباقي العمري في عينيته الشهيرة: أنت العليّ الذي فوق العُلي رُفعا وعقّب عليه أبو الثناء الآلوسي في شرحه هذه القصيدة ـ شرح عينية عبدالباقي العمري ـ ما نصه: «وفي کون الأمير کرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذکر في کتب الفريقين السنة والشيعة... ولم يشتهر وضع غيره کرّم الله وجهه کما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الکلمة عليه، وأحري بإمام الأئمّة أن يکون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يصنع الأشياء، وهو أحکم الحاکمين»[6] .
من العجائب التي أضافت صوتاً ضارباً في التاريخ وأحداثه الفريدة التي تفتح الأعين علي ما تخفيه من أسرار، أن يصطفي الله لعبد اصطفاه، حتي موضع مولده، ليجمع له ـ مع طهارة مولده ـ شرف المحل، محل الولادة، ويخصّه بمکرمةٍ ميَّزه بها منذ ساعة مولده عن سائر البشر.
والبيت حيـث فناؤه والمسجد
طابت وطاب وليدهـا والمولد
إلاّ ابــن آمنةَ النبـيِ محمّد
ورضيعـاً وجنينـا
يوم کان الخلقُ طينا
وفي الرمل دفينا[5] .
ببطن مکة عند البيت إذ وُضعا
صفحه 21، 22.