التدبير











التدبير



حسن الرأي و التدبير قال ابن ابي الحديد: أما الرأي و التدبير فکان من أشد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا و هو الذي اشار علي عمر لما عزم ان يتوجه بنفسه الي حرب الروم و الفرس بما أشار و هو الذي اشار علي عثمن بأمور کان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث «ا ه» (اقول) و هو الذي أشار علي المسلمين بأن يدفن النبي «ص» في موضع وفاته و ان يصلي عليه المسلمون فرادي بدون امام جماعة بعد جماعة و ان شئت ان تجعل هذا من العلم و الفقه فلک ذلک. و هو الذي اشار علي عمر بوضع التاريخ للهجرة. روي الحاکم في المستدرک بسنده عن سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فسألهم من اي يوم يکتب التاريخ فقال علي بن ابي طالب من يوم هاجر رسول الله «ص» و ترک ارض الشرک ففعله عمر و ذکره ابن الاثير في تاريخه عن سعيد بن المسيب مثله. و من اخباره في جودة الرأي ما رواه المفيد في الارشاد عن شبابة بن سوار عن ابي بکر الهذلي قال سمعت رجلا من علمائنا يقول: و ذکر حديثا خلاصته انه انتهي خبر الي من بالکوفة من المسلمين ان جموعا کثرة تحتشد في فارس لغزوهم، فأنهي مسلمو الکوفة الخبر الي عمر ففزع لذلک فزعا شديدا فاستشار المسلمين و قال ان الشيطان قد جمع لکم جموعا و اقبل بها ليطفئ بها نور الله فأشار عليه طلحة بالمسير بنفسه و قال عثمن اري ان تشخص اهل الشام من شامهم و اهل اليمن من يمنهم و تسير انت في اهل هذين الحرمين و اهل المصرين الکوفة و البصرة فتلقي جميع المشرکين بجميع المؤمنين و قال علي انک ان أشخصت اهل الشام من شامهم سارت الروم الي ذراريهم و ان اشخصت اهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الي ذراريهم و ان اشخصت اهل هذين الحرمين انتقضت عليک العرب من اطرافها فاما ذکرک کثرة العجم و رهبتک من جموعهم فانا لم نکن نقاتل علي عهد رسول الله «ص» بالکثرة و انما کنا نقاتل بالبصيرة و ان الأعاجم اذا نظروا اليک قالوا هذا رجل العرب فان قطعتموه فقد قطعتم العرب و کان أشد لکلبهم و لکني اري ان تقر هؤلاء في امصارهم و تکتب الي اهل البصرة فليتفرقوا علي ثلاث فرق فلتقم فرقة منهم علي ذراريهم و لتقم فرقة علي اهل عهدهم لئلا ينتقضوا و لتسر فرقة منهم الي اخوانهم مددا لهم فقال عمر أجل هذا هو الرأي و قد کنت احب ان اتابع عليه و جعل يکرر قول علي و ينسقه اعجابا به و اختيارا له.

ثم انه قد يظن او يعتقد بعض من لا خبرة له او من غلب عليه الهوي او التقليد ان عليا عليه السلام اضعف رأيا و اقل تدبيرا من سواه و يستدل علي ذلک بعدم انتظام الامر له ايام خلافته و بتغلب معوية علي قسم کبير من المملکة الاسلامية و بانه لم لم يول معوية علي الشام ثم يعزله و بان مساواته بين الناس في العطاء کان خلاف الرأي بل کان ينبغي ان يستميل الاکابر بالمال ليکونوا معه کما کان يفعل معوية (و الجواب) عن ذلک واضح بين لا يحتاج الي اطالة الکلام و کثرة النقض و الابرام فان عليا عليه السلام لم يکن طالب ملک و لا امارة و لا طالب دنيا و انما کان هدفه الاعلي و مقصده الوحيد و غايته المطلوبة رضا الله و اقامة عمود الحق و محو الباطل، و الدنيا و المال و الملک لا تساوي عنده جناح بعوضة فکيف يمکن ان يتوصل اليها بضد ما هو هدفه و مقصده و غايته و لم يکن يري التوصل الي الملک و الامارة من اي طريق کان و باي وجه اتفق و لا يستحل التوصل الي تثبيت ملکه بشي ء يخالف الشرع من قتل النفوس البريئة و نقض العهود و دس السموم و سلب الاموال و المداهنة و غير ذلک و من کانت هذه صفته و هذه حاله لا يصح ان ينسب الي قصور في الرأي و ضعف في التدبير و لا ان ينسب خصمه الذي کان يتوسل الي تحصيل الملک و الامارة بکل ما يمکنه الي انه اصح منه تدبيرا و اسد رأيا و انما يصح ان ينسب الي ذلک من يدبر أمرا ليتوصل به الي مطلوبه فتکون نتيجته بالعکس لجهله بمواقع الامور و شي ء من هذا لم يحصل من امير المؤمنين «ع» و لا يمکن ان يحصل فهو اعلم الناس بمواقع الامور و قد ابان عن هذا مرارا بقوله قد يري الحول القلب وجه الحيلة فيدعها رأي العين و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين و قوله کما في نهج البلاغة و الله ما معوية بادهي مني و لکنه يغدر و يفجر و لولا کراهية الغدر لکنت من ادهي الناس و الله ما استغفل بالمکيدة و لا استغمز بالشديدة[1] و خصمه کان يري التوصل الي الملک و الامارة بکل ما يمکنه من حلال او حرام من اي طريق کان و باي وجه اتفق لا يستثني في سبيل ذلک شيئا و لا يتقيد بامر دون آخر و مثل هذا لا يصح ان يقال عنه انه اسد رأيا و اصح تدبيرا و لذلک تغلب علي قسم کبير من المملکة الاسلامية و قد اشار الي ذلک ابن ابي الحديد في تتمة کلامه السابق حيث قال و انما قال اعداؤه انه لا رأي له لانه کان متقيدا بالشريعة لا يري خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه و قد قال (ع) لولا الدين و التقي لکنت ادهي العرب و غيره کان يعمل بمقتضي ما يستصلحه سواء کان مطابقا للشرع او لم يکن و لا ريب ان من يعمل بما يؤدي اليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لاجلها مما يري الصلاح فيه تکون احواله الدنياوية الي الانتظام اقرب و من کان بخلاف ذلک تکون احواله الدنياوية الي الانتشار اقرب «ا ه». و ان نظر کثير من الناس الي علي بن ابي طالب نظرهم الي من يطلب ملکا و امارة و يريد ان يکون سلطانا آمرا ناهيا متسلطا متمتعا بنعيم الدنيا متهالکا في حب الجلوس علي عرش الملک و القبض علي صولجان الحکم يجمع الاموال و يصرفها فيما يحب و يولي ابناءه و اقرباءه و من يمت اليه و يستکثر من الخدم و الحشم و مثل هذا يتوسل للوصول الي مطلوبه و الحصول علي بغيته بکل وسيلة شريفة او غير شريفة فيتوسل بالکذب و الخداع و نقض العهود و قتل النفوس و دس السم و الرشوة و مداهنة الظلمة و الخونة و تقريبهم و الاستعانة بهم و اجزال العطايا لهم و عدم الالتفات الي الضعفاء و عدم المبالاة بهم و حرمانهم و لو کانوا من اولياء الله و الظلم و العسف و المؤاخذة بالظن و التهمة. و بالجملة فعل کل ما يظن به الوصول الي غايته کيفما کان و ترک کل ما يظن به البعد عن غايته مهما کان فاذا رأوا أمير المؤمنين عليه السلام فعل شيئا بضد هذه الافعال ظنوا بعقولهم القاصرة ان ذلک لقلة خبرة منه بالسياسة و لم يعلموا ان أمير المؤمنين عليه السلام لم يکن طالب دنيا و لا امرة و لا سلطنة بل طالب آخرة و هدفه اقامة الحق و خذلان الباطل فکيف يتوسل بالباطل الي نيل الملک و هو الذي کان يقول و الله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاکها علي ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت و يقول في نعله التي لا تساوي درهما و الله لامرتکم هذه اهون علي من هذه النعل الا ان اقيم حقا او ادفع باطلا و هو الذي لم يقبل يوم الشروي ان يبايعه عبد الرحمن بن عوف الا علي کتاب الله و سنة رسوله صلي الله عليه و آله و سلم و لم يرض ان يدخل معهما سيرة الشيخين حتي عدل عنه الي من قبل بذلک. و هو الذي ناقش خازنه علي زق عسل في بيت المال استقرض منه ولده شيئا يسيرا لا ضيافه و هو الذي لم يحاب اخاه عقيلا في شي ء يزيده به عن عطائه. علي ان ما تمکن في النفوس من الحقد عليه بمن قتله من القبائل و الحسد له بما اعطاه الله من فضل کان يحول دون انقياد الجمهور له و يفسد عليه کثيرا من آرائه الصائبة. اما عدم انتظام الامر له فلا يجوز ان يعزي الي خطل في الرأي او نقص في التدبير لان الامور کثيرا ما تفسد علي اهل الآراء الصائبة نظرا الي فساد اخلاق الناس و کثرة من يفسد علي صاحب الرأي المصيب رأيه و ذي التدبير تدبيره و منه يظهر الجواب عن تغلب معوية علي قسم کبير من المملکة الاسلامية في زمن خلافته عليه السلام فان معوية استطاع بالتمويه علي اهل الشام و بمساعدة عمرو بن العاص ان يقنع اهل الشام ان عليا قتل عثمن مع علمه بانه بري ء منه و ان قتل عثمن تستند اقوي اسبابه الي خذلان معوية له و هذا لم يکن في استطاعة اي مدبر و صاحب رأي صائب ان يزيله من الاذهان بعد ما تمکن فيها سواء قلنا ان ذلک کان مخاتلة و مخادعة و سعيا وراء الملک او قلنا انه کان عن اجتهاد يؤجر صاحبه!!. و لا شي ء اعجب من قول من يقول لم لم يول معوية و يقره علي الشام مدة ثم يعزله، فان معوية کان يعلم علما يقينا لا يخالطه شک بما مارسه و عرفه طول هذه المدة من خلق أمير المؤمنين عليه السلام و سيرته انه لا يمکن ان يبقيه علي الولاية و لا بد ان يعزله و کان ادهي من ان ينطلي عليه ذلک فاذا ولاه و هو عالم بانه سيعزله لم يقبل و يقول له صحح خلافتک اولا ثم ولني و برئ نفسک من دم عثمن ثم اجعل الامر شوري و لو ولاه لجعل ذلک حجة عليه فاذا اراد عزله قلب له المجن و طالبه بدم عثمن. قال ابن ابي الحديد في الجواب عن ذلک: ان أمير المؤمنين علم من قرائن الاحوال ان معاوية لا يبايع و ان اقره علي ولاية الشام بل کان اقراره عليها اقوي لحال معوية لانه ان طالبه بالبيعة و ولاه فمن الممکن ان يقرأ معوية علي اهل الشام تقليده فيؤکد حاله عندهم بانه لو لم يکن اهلا لذلک لما اعتمده ثم يماطل بالبيعة و ان تقدم بالمطالبة بالبيعة فهو الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام و ان اقره ثم طالبه بالبيعة فهو کالاول بل آکد فيما يريده معوية و کيف يتوهم عارف ان معوية کان يبايع له لو اقره و بينه و بينه مالا تبرک عليه الابل من الترات و الاحقاد و هو الذي قتل حنظلة اخاه و الوليد خاله و عتبة جده في مقام واحد و کيف يخطر ببال عارف بحال معوية انه يقبل اقرار علي له و ينخدع بذلک و يبايع انه لا دهي من ذلک و ان عليا لا عرف بمعوية ممن ظن انه لو استماله باقراره لبايع و لم يکن عند علي دواء لهذا المرض الا السيف لان الحال اليه کانت تؤول فجعل الآخر اولا ثم ذکر ما اورده الزبير بن بکار في الموفقيات من مکاتبة معاوية بعد قتل عثمن الي مروان و طلحة و الزبير و جماعة آخرين و جوابهم له مما يدل علي ان معاوية لم يکن لينجذب الي طاعة علي ابدا و ان مضادته له کمضادة السواد للبياض و ان عليا (ع) کان اعرف بما عمل «ا ه». اما المساواة بين الناس في العطاء فانه کان يري ذلک عدلا و قسطا يلزمه او يرجح عنده القيام به و کان يريد ان يمحو ما تفشي بين المسلمين من الاستئثار و تقدم القوي علي الضعيف. قال ابن ابي الحديد و اعلم ان قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين زعموا ان عمر کان اسوس منه و ان کان هو اعلم من عمر ثم زعم اعداؤه و مبغضوه ان معوية کان اسوس منه و اصح تدبيرا و اجاب بان السائس لا يتمکن من السياسة البالغة الا اذا کان يعمل برأيه و بما يري فيه صلاح ملکه سواء وافق الشريعة اولا و الا فبعيد ان ينتظم امره و أمير المؤمنين کان مقيدا بقيود الشريعة و رفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب و التدبير و الکيد اذا لم يوافق الشرع الي ان قال: و لم يمن عمر بما مني به علي من فتنة عثمن و فتن الجمل و صفين و النهروان و کل هذه الامور مؤثرة في اضطراب امر الوالي ثم قال و اما القول في سياسة معوية و ان شناة علي و مبغضيه زعموا انها خير من سياسة أمير المؤمنين (ع) فيکفينا في الکلام علي ذلک ما قاله شيخنا ابو عثمن الجاحظ و نحن نحکيه بالفاظه قال: ربما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل و التحصيل و الفهم و التمييز يزعم ان معوية کان ابعد غورا و اصح فکرا و اجود رواية و ليس الامر کذلک و سأومي اليک بجملة تعرف بها موضع غلطه و المکان الذي دخل عليه الخطأ من قبله کان علي لا يستعمل في حربه الا ما وافق الکتاب و السنة و معوية يستعمل خلاف الکتاب و السنة کما يستعملهما و يستعمل جميع المکائد حلالها و حرامها و يسير في الحرب بسيرة ملک الهند اذا لاقي کسري و خاقان اذا لاقي رتبيل، و علي يقول لا تبدؤوهم بالقتال حتي يبدؤوکم و لا تتبعوا مدبرا و لا تجهزوا علي جريح و لا تفتحوا بابا مغلقا. هذه سيرته في ذي الکلاع و في ابي الاعور السلمي و في عمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة و في جميع الرؤساء کسيرته في الحاشية و الحشو و الاتباع و السفلة. و اصحاب الحروب ان قدروا علي البيات بيتوا و ان قدروا علي رضخ الجميع بالجندل و هم نيام فعلوا و ان امکن ذلک في طرفة عين لم يؤخروه الي ساعة و ان کان الحرق اعجل من الغرق لم يقتصروا علي الغرق و لم يؤخروا الحرق الي وقت الغرق و ان امکن الهدم لم يتکلفوا الحصار و لم يدعوا ان تنصب المجانيق و العرادات و الدبابات و النقب و الکمين و لم يدعوا دس السموم و لا التضريب بين الناس بالکذب و طرح الکتب في عساکرهم بالسعايات و توهيم الامور و ايحاش بعض من بعض و قتلهم بکل آلة و حيلة کيف وقع القتل فمن اقتصر من التدبير علي ما في الکتاب و السنة کان قد منع نفسه الطويل العريض من التدبير فعلي کان ملجما بالورع عن جميع القول و ممنوع اليدين من کل بطش الا ما هو لله رضا فلما ابصرت العوام کثرة نوادر معوية في المکائد و لم يروا ذلک من علي ظنوا بقصر عفو لهم و قلة علومهم ان ذلک من رجحان عند معوية و نقصان عند علي فانظر بعد هذا کله هل يعد له من الخدع الا رفع المصاحف ثم انظر هل خدع بها الا من عصي رأي علي و خالف امره فان زعمت انه قد نال ما اراد من الاختلاف فقد صدقت و ليس في هذا اختلفنا و لا عن غرارة اصحاب علي و عجلتهم و تسرعهم و تنازعهم دافعنا و انما کان قولنا في التمييز بينهما في الدهاء و صحة العقل و الرأي و هل کتابنا وضع الا علي ان عليا کان قد امتحن في اصحابه و في دهره بما لم يمتحن امام قبله من الاختلاف و المنازعة و التشاح في الرياسة و التسرع و العجلة و قد علمنا ان ثلاثة تواطؤوا علي قتل ثلاثة علي و معوية و عمرو بن العاص فکان من الاتفاق او من الامتحان ان کان علي من بينهم هو المقتول و في قياس مذهبکم ان تزعموا ان سلامة عمرو و معاوية انما کانت بحزم منهما و ان قتل علي انما هو من تضييع منه فاذ قد تبين لکم انه من الابتلاء و الامتحان فکل ما سوي ذلک انما هو تبع له «ا ه» قال ابن ابي الحديد: و من تأمله بعين الانصاف و لم يتبع الهوي علم صحة جميع ما ذکره و انما أمير المؤمنين دفع من اختلاف اصحابه و سوء طاعتهم له و لزومه سنن الشريعة و منهج العدل و خروج معوية و عمرو عن قاعدة الشرع ما لم يدفع غيره فلو لا انه کان عارفا بوجوه السياسة حاذقا فيها لم يجتمع عليه الا القليل من اهل الآخرة فلما وجدناه دبر الامر حين وليه فاجتمع عليه من العساکر ما يتجاوز العد فظفر في اکثر حروبه و کان الاقرب الي الانتصار علي معوية علمنا انه من معرفة تدبير الدول و السلطان بمکان مکين «ا ه». و اورد ابن ابي الحديد في شرح النهج امورا کثيرة تعلق بها من طعن في سياسته و أجاب عنها و لما کانت الاجوبة عنها ظاهرة لم نستحسن اطالة الکلام بذکرها و الجواب عنها.









  1. قال ابن ابي الحديد: اي لا تجوز المکيدة علي کما تجوز علي ذوي الغفلة و لا اهين و لا الين الخطب الشديد. المؤلف.