الكوثر في كلام الأعلام











الکوثر في کلام الأعلام



1ـ قال المولي صدر الدين الحکيم الشيرازي رحمه الله: «قال بعض العلماء: «إنا أعطيناک الکوثر» فالکوثر صورته صورة الماء، و حقيقته حقيقة العلم، لست أقول: إن المراد من هذه الأمثال الواردة في القرآن مقصور علي معانيها الباطنية العقلية من غير تحقق الصور المحسوسة کما يقوله الباطنية، کلا، بل نقول: الغرض منها العبور من مظاهرها إلي مطاويها، و من صورها إلي معانيها، فإن للقرآن ظهرا و بطنا، و تأويلا و تفسيرا.

ثم إذا شبه العلم مطلقا بالماء فيترتب عليه تشبيه أقسامه بأقسامه، کتشبيه العلوم الحقة الخالية عن الشبه و الشکوک بالماء الطاهر الزلال، و العلوم التي بخلافها بالماء الکدر المخلوط بالکثايف، و کتشبيه اليقينات الدائمة بالماء الجاري أبدا، و التي بخلافها بالماء المنقطع، و کتشبيه العلم الذي يفيض من عند الله بإلهامه بلا واسطة معلم بشري بالماء النازل من السماء الجارية في الأودية[1] بلا سعي و تعمل آلة و حفر قناة و استنباط، و الذي يحصل بالفکر و الروية کالماء المستنبط من الأرض بالحفر و نحوه، و الذي يحصل بالتقليد کالماء الذي يفرغ من حوض إلي حوض».[2] .

2ـ قال العلامة الفيض رحمه الله: «يخطر بالبال أن مثال الکوثر في الدنيا هو العلم و الحکمة، و مثال أوانيه علماء الامة، و لهذا فسر بالخير الکثير، فإن الله عز و جل يقول: و من يؤت الحکمة فقد اوتي خيرا کثيرا و ما يذکر إلا اولوا الألباب.[3] و يؤيد هذا ما رواه بعض علماء العامة عن مولانا الصادق عليه السلام في تأويل الآية: إنا أعطيناک نورا في قلبک دلک علي و قطعک عما سواي، قال: و کان هذا منه عليه السلام نوع إشارة کإشارات الصوفية لا أنه تفسير السورة.

أقول: و من شرب کأس العلم من مشرب التحقيق علم أن مثل هذه الاشارة يرجع إلي التفسير عند التحقيق، و يتحدان بحسب المعني، لما عرفت مرارا: أن لکل حقيقة في کل موطن صورة و مثالا...».[4] .

3ـ قال العلامة الطريحي رحمه الله: «و الحوض الکوثر، و من کلام علي عليه السلام:


أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب
و هاشم المطعم في العام السغب


لعل المراد بهما الحقيقة، و يحتمل أنه أراد العلم و الهدي».[5] .

4ـ قال العلامة الطنطاوي في تفسيره: «وصف الکوثر: طينته مسک أذفر، ماؤه أشد بياضا من الثلج، و أحلي من العسل، حافتاه من ذهب، مجراه علي الدر و الياقوت، تربته أطيب من المسک، شاطئاه در مجوف.

وصف کيزانه و طيره: آنيته عدد نجوم السماء، فيه طير أعناقها کأعناق الجزور، و في رواية، کيزانه کنجوم السماء، من شرب منها لا يظمأ أبدا، و زواياه سواء، فيه أباريق کنجوم السماء، من ورده فشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا، و الذي نفسي بيده لآنيته أکثر من عدد نجوم السماء و کواکبها.

وصف الشاربين: في حديث مسلم: «قالوا: يا نبي الله تعرفنا؟قال: نعم، لکم سيما ليست لأحد غيرکم، تردون علي غرا محجلين من آثار الوضوء، و ليصدن عني طائفة منکم فلا يصلون إلي، فأقول: يا رب هؤلاء من أصحابي! فيجيبني ملک فيقول: و هل تدري ما أحدثوا بعدک»؟هذا ملخص ما جاء في الحوض من رواية البخاري أو مسلم.

إذا عرفت هذا فأصغ لما أتلو عليک من نبأ هذه الأحاديث و أسرارها: إعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقي مما يراها الذين لا يفکرون، کم امم جاءت قبلنا و جاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة و صورة مفرحة و بهجة و جمال، و من قرأ کتاب «کليلة و دمنة» الذي لم تخل منه مدرسة من مدارس العالم الشرقي و الغربي في الوقت الحاضر إلا لها حظ من قراءته.

أقول: من قرأ هذا الکتاب عرف مقدرة الفيلسوف الهندي، و کيف جاء بالسياسة و نظام المدنية و العلوم الاجتماعية في قوالب المحادثات الحيوانية، فتارة يجعله في هيئة محاورة بين ثور و أسد، و تارة بين حمامة و غراب، و سلحفاة و فأرة، و هکذا مما سر العامة بظاهره الطلي الجميل، و علم الحکماء و العلماء بباطنه القويم.

و لکن ليس ذلک (أي التعبير النبوي) کما في «کليلة و دمنة» الذي يفرح به الجهال، و لکن الحکماء يرون الباطن هو المقصود، و الظاهر منبوذ، لأن البهائم لا تتکلم بداهة، کلا ثم کلا بل هنا ظاهر القول حق، و باطنه حق.

الجاهل يسمع الدر و الياقوت و شرابا أحلي من العسل، فيفرح به فيعبد الله ليصل إلي هذه اللذات، و هذا الجاهل أکثر أهل هذه الأرض، و العالم ينظر فيقول: إن هذا القول و راءه حکمة، و راءه علم، لأنني أري في خلال القول عجائب، فلماذا يذکر أن الکيزان أو الأباريق أو نحو ذلک عدد نجوم السماء؟و أي دخل لنجوم السماء هنا؟و لماذا عبر به؟ثم يقول: لماذا ذکر أن الذين يردون الحوض يکونون عليهم آثار الوضوء؟ثم يقول: لماذا ذکر أن عدد الآنية يکون أکثر من نجوم السماء؟و لماذا هذه المحافظة کلها علي عدد نجوم السماء؟

إذن يقول: لا، لا، الحق أن نبينا محمدا صلي الله عليه و آله و سلم يريد أمرين: أمرا واضحا جليا يفرح به جميع الناس، و أمرا يختص بالقواد و العظماء، إن النبوة بأمر الله، و الله جعل في أهل الارض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، و جعل أطباء يستخرجون منافع من الحب و الشجر، و حکماء يستخرجون علوما، و کل لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارک الفلاح في أنه يأکل، و لکنه يمتاز عنه بإدراک المنافع الطبية، هکذا حکماء الامة الاسلامية يشارکون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض کما فهموه، و يردونه معهم کما يردونه، و لکن هؤلاء يمتازون بأنهم قواد الامة الذين يقودونها، فماذا يقولون؟

يقولون: إن النبي صلي الله عليه و آله و سلم يريد معاني أرقي، إن الجنة فيها ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر علي قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلي من العسل، و أبيض من الثلج کل شي ء هناک و أي شي ء عدد نجوم السماء، و لماذا خصصت النجوم بالعدد، و الوضوء بالأثر؟

و الذي نقوله: إن الحوض يرمز به للعلم مع بقائه علي ظاهره، فما المسک الأذفر، و لا أنواع الجواهر النفيسة من در و ياقوت، و لا حلاوة العسل التي في ذلک الماء، و لا اتساع ذلک الحوض إلا أفانين العلم و مناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين.

إن هذه الأحاديث جاءت لترقية الامة الاسلامية بأن يردوا حوض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم بالعلم، و هذه الأحاديث تشير إلي أن هذه الامة سينبغ منها اناس لا نظير لهم ستطهر نفوسهم، و يکرعون من موارد العلوم الشريفة، و يشربون من حوض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و يدرسون العلوم التي بثها الله في هذه الدنيا و لا نهاية لها، و لا يذرون شيئا مما خلق الله إلا عرفوه علي مقدار طاقتهم... فيصبحون خلفاء الله في الأرض فالقرآن يطلب هذه العلوم کلها. فمن قرأ الفلک باعتبار أنه آثار جمال الله فقد ورد بعض حوض رسوله صلي الله عليه و آله و سلم، و من درس الطب و الحکمة و التشريع أو عجائب النمل أو النحل کذلک او نظام کسوف الشمس و القمر فقد ورد بعض حوض رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم مع طهارة نفوسهم.

هذا هو سر حديث الحوض يدلنا علي أن هذه الامة سيطول أمدها، ستکون لهم دول و حکماء و عظماء و انظر کيف يقول: إن هذا الحوض ببعد عنه اناس هم مسلمون، و لکن يقال للنبي صلي الله عليه و آله و سلم ـ کما في البخاري و مسلم ـ: «هل تدري ما أحدثوا بعدک؟» اولئک الذين يطردون من الحوض، هم الذين لم تستعد قلوبهم للعلم، و هم لم يسعوا له».[6] .









  1. اشارة الي الآية 17 من سورة الرعد، و کقوله تعالي: و ما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه و هذا ملح اجاج (فاطر، 35: 12) فإنه تمثيل للإيمان و الکفر، و هما نوعان من العلم.

    و کقول أمير المؤمنين عليه السلام في «الکافي» (باب معرفة الإمام): «و لا سواء حيث ذهب الناس الي عيون کدرة يفرغ بعضها في بعض، ذهب من ذهب إلينا إلي عيون صافية تجري بأمر الله لا نفاد لها و لا انقطاع»، فانه عليه السلام شبه علوم الائمة عليهم السلام بالعيون الصافية.

  2. شرح اصول الکافي/باب معرفة الامام، ص 477، ط طهران.
  3. البقرة، 2: 269.
  4. الفيض: علم اليقين، ج 2: ص 987.
  5. الطريحي: مجمع البحرين/مادة «حوض».
  6. تفسير الجواهر/ذيل سورة الکوثر. و قد نقلنا کلامه بالتلخيص مع أدني تغيير في العبارات.