شان نزول الآية











شان نزول الآية



من المسائل التي کادت تعد في الضروريات الأولية نزول آية المباهلة في حق أهل الکساء، و الخمسة النجباء عليهم السلام حتي إن کثيرا من المحدثين و المفسرين والمورخين و المتکلمين ذکروه في کتبهم و أرسلوه إرسال المسلمات، بل ذهب جل أهل القبلة علي أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم لم يدع للمباهلة من النساء سوي بضعته الزهراء عليها السلام، و من الأبناء سوي سبطيه و ريحانيته من الدنيا الحسن و الحسين عليهما السلام، و من الأنفس إلا أخاه الذي کان منه بمنزلة هارون من موسي عليه السلام، فهؤلاء أصحاب هذه الآية. و قد ذکر نزول الآية فيهم عليهم السلام کثير من علماء العامة، و إليک ذکر بعضها:

1ـ قال محمد بن جرير الطبري في تفسيره: «غدا النبي صلي الله عليه و آله و سلم محتضنا حسينا آخذا بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه ـ صلوات الله عليهم أجمعين».[1] .

2ـ و أخرج الحاکم في «المستدرک» و صححه و ابو نعيم في «الدلائل» عن جابر الأنصاري، قال: «قدم علي النبي صلي الله عليه و آله و سلم العاقب و السيد فدعاهما إلي الإسلام ـ إلي أن قال: ـ فدعاهما إلي الملاعنة فوعداه، فغدا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و أخذ بيد علي و فاطمة و الحسن و الحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه ـ إلي أن قال ـ: «أنفسنا و أنفسکم» رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و علي، و «أبناءنا» الحسن و الحسين و «نساءنا» فاطمة».[2] .

3ـ قال جار الله محمود الزمخشري في تفسيره: «فأتوا (يعني نصاري نجران) رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و قد غدا محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و علي خلفها و هو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا، فقال اسقف نجران: يا معشر النصاري! إني لأري وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مکانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلکوا ـ إلي أن قال: ـ و فيه دليل لا شي ء أقوي منه علي فضل أصحاب الکساء عليهم السلام[3] ـ الخ».

4ـ قال فخر الدين الرازي في تفسيره: «إنه عليه السلام لما أورد الدلائل علي نصاري نجران ثم إنهم أصروا علي جهلهم فقال عليه السلام: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلکم، فقالوا: يا أبا القاسم! بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيک. فلما رجعوا قالوا للعاقب ـ و کان ذا رأيهم ـ: يا عبد المسيح! ما تري؟فقال: و الله، لقد عرفتم، يا معشر النصاري! أن محمدا نبي مرسل، و لقد جاءکم بالکلام الحق في أمر صاحبکم ـ إلي أن قال: ـ و کان رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم خرج و عليه مرط[4] من شعر أسود، و کان قد احتضن الحسين، و أخذ بيد الحسن، و فاطمة تمشي خلفه، و علي ـ رضي الله عنه ـ خلفها، و هو يقول: إذا دعوت فأمنوا، فقال اسقف نجران: يا معشر النصاري! إني لأري وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مکانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلکوا، و لا يبقي علي وجه الأرض نصراني إلي يوم القيامة».

و قال في آخر کلامه: «و روي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن ـ رضي الله عنه ـ فأدخله، ثم جاء الحسين ـ رضي الله عنه ـ فادخله ثم فاطمة، ثم علي ـ رضي الله عنهماـ، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنکم الرجس أهل البيت و يطهرکم تطهيرا. و اعلم أن هذه الرواية کالمتفق علي صحتها بين أهل التفسير و الحديث (6)».

5ـ قال القرطبي في تفسيره: «أبناءنا دليل علي أن أبناء البنات يسمون أبناء، و ذلک أن النبي صلي الله عليه و آله و سلم جاء بالحسن و الحسين و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها و هو يقول لهم: إن أنا دعوت فأمنوا».[5] .

6ـ قال سبط ابن الجوزي: «لما نزل قوله تعالي: ندع أبناءنا و أبناءکم دعا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السلام و قال: اللهم هؤلاء أهلي»[6] ـ قال ابو حيان الاندلسي: «لما نزلت هذه الآية: قل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءکم دعا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي».[7] .

8ـ قال الحافظ أحمد بن حنبل في مسنده. «و لما نزلت هذه الآية: ندع أبناءنا و أبناءکم دعا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا و فاطمة و حسنا و حسيناـ رضوان الله عليهم اجمعين ـ فقال: اللهم هؤلاء أهلي».[8] .

9ـ قال الحافظ الکنجي الشافعي: «لما نزلت هذه الاية: ندع أبناءنا و أبناءکم... دعا رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي».[9] .

أقول: هذه الأقوال التي ذکرناها في شأن نزول الاية قطرة من البحر ذرة من القفر، فإن شئت الزيادة فراجع «إحقاق الحق».[10] و جدير بنا أن ننقل ههنا التشقيق الذي يحتمل في الاية و هو ما قاله المحقق البارع، الشيخ محمد تقي الفلسفي ـ صانه الله من حوادث الدهر و سوء الزمان ـ: «إن مباهلة و ملاعنة أهل الکساء و الخمسة النجباء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ مع نصاري نجران لا تخلو عن أربعة وجوه في العقل و التصور:

الاول: أن تستجاب مباهلة کل واحد من الطرفين، فتکون هذه سببا لاستيصالهما و هلاکة کل واحد منهما.

الثاني: أن لا تستجاب مباهلة کل من الخصمين کليهما، فيکون هذا سببا لسقوطهما عن أعين الناس لا سيما إذا کان المباهلون من ولاة الأمر و الدعاة إلي الدين کما فيما نحن فيه. الثالث: أن تستجاب مباهلة أهل نجران فتکون سببا لوقوع العذاب علي مخالفهم.

الرابع: أن تستجاب مباهلة و ملاعنة أهل البيت ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فتکون سببا لهلاکة خصمهم. فالغالب من هذه الإحتمالات يمنع کل واحد من الخصمين عن الإقدام علي المباهلة لأن فيه الإطمينان مظنة الهلکة و الاستيصال و العذاب.

فإذا اتضح هذا يعلم منه أن الخمسة الطيبة عليهم السلام کانوا في أعلي درجات اليقين و الاطميان، فلو کان في نفوسهم الشريفة ـ العياذ بالله ـ قلق، أو اضطراب، أو وسوسة في الإجابة و عدمها لم يقدموا أبدا علي المباهلة، لأن في إقدامهم عليهم السلام فيها إما احتمال الهلکة و النقمة و العذاب أو سقوط منزلتهم و هيبتهم عن أعين الناس. و لهذه الوساوس و الشک و الريب امتنع أهل نجران و انصرفوا لم يجرؤوا علي المباهلة، و بعد إنصرافهم عن الملاعنة و المباهلة قال رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم: «و الذي نفسي بيده، إن الهلاک قد تدلي علي أهل نجران، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل الله نجران و أهله حتي الطيور علي رؤوس الشجر، و لما حال الحول علي النصاري حتي يهلکوا».[11] .

و لعل هذا المعني، أعني عدم الخطور النفسانية و الوساوس في نفوسهم الشريفة و تعميم المباهلة و الملاعنة بين النبي صلي الله عليه و آله و سلم و علي و فاطمة و الحسن و الحسين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ و بين نصاري نجران يستفاد من نفس الآية الکريمة إذا أمعنت النظر فيها.

قال العلامة الطباطبائي رحمه الله: «و ههنا نکتة أخري و هي أن في تذکيره صلي الله عليه و آله و سلم بالعلم تطييبا لنفسه الشريفة أنه غالب بإذن الله و أن ربه ناصره و غير خاذله البتة».

قال أيضا: «و المباهلة و الملاعنة و إن کانت بحسب الظاهر کالمحاجة بين رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم و بين رجال النصاري لکن عمت الدعوة للأبناء و النساء ليکون أدل علي اطمينان الداعي بصدق دعواه و کونه علي الحق لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم و الشفقة عليهم فتراه يقيهم بنفسه و يرکب الأهوال و المخاطرات دونهم و في سبيل حمايتهم و الغيرة عليهم و الذب عنهم، و لذلک بعينه قدم الأبناء علي النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد و أدوم».

و قال أيضا: «و قوله عز و جل: فنجعل لعنة الله کالبيان للابتهال، و قد قيل: فنجعل، و لم يقل: فنسأل، إشارة إلي کونها دعوة غير مردودة حيث يمتاز بها الحق من الباطل».

و قال أيضا: «قوله عز و جل: الکاذبين مسوق سوق العهد، دون الإستغراق أو الجنس، إذ ليس المراد جعل اللعنة علي کل کاذب أو علي جنس الکاذب، بل علي الکاذبين الواقعين في أحد طرفي المحاجة الواقعة بينه صلي الله عليه و آله و سلم و بين النصاري، حيث قال صلي الله عليه و آله و سلم: إن الله لا إله غيره و إن عيسي عبده و رسوله، و قالوا: إن عيسي هو الله، أو إنه ابن الله، أو إن الله ثالث ثلاثة. و علي هذا، فمن الواضح أن لو کانت الدعوي و المباهلة عليها بين النبي صلي الله عليه و آله و سلم و بين النصاري، أعني کون أحد الطرفين مفردا و الطرف الآخر جمعا کان من الواجب التعبير عنه بلفظ يقبل الإنطباق علي المفرد و الجمع معا کقولنا: فنجعل لعنة الله علي من کان کاذبا. فالکلام يدل علي تحقق کاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة و المباهلة علي أي حال إما في جانب النبي صلي الله عليه و آله و سلم و إما في جانب النصاري، و هذا يعطي أن يکون الحاضرون للمباهلة شرکاء في الدعوي فإن الکذب لا يکون إلا في الدعوي، فلمن حضر مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هم علي و فاطمة و الحسنان عليهم السلام شرکة في الدعوي و الدعوة مع رسول الله صلي الله عليه و آله و سلم، و هذا من أفضل المناقب التي خص الله به أهل بيت نبيه عليهم السلام کما خصهم باسم الانفس و النساء و الأبناء لرسوله صلي الله عليه و آله و سلم من بين رجال الامة ونسائهم و أبنائهم».[12] .

و قال المراغي في تفسيره: «و في تقديم هؤلاء (أي الأبناء و النساء) علي الانفس في المباهلة مع أن الرجل يخاطر بنفسه لهم إيذان بکمال أمنه صلي الله عليه و آله و سلم و تمام ثقته بأمره و قوة يقينه و بأنهم لن يصيبهم في ذلک مکروه».[13] .

و قال الزمخشري: «فإن قلت: ما کان دعاؤه إلي المباهلة إلا ليتبين الکاذب منه و من خصمه و ذلک أمر يختص به و بمن يکاذبه فما معني ضم الأبناء و النساء؟

قلت: ذلک آکد في الدلالة علي ثقته بحاله و استيقانه بصدقه، حيث استجرأ علي تعريض أعزته و أفلاذ کبده و أحب الناس إليه لذلک... و خص الأبناء و النساء لأنهم أعز الأهل و ألصقهم بالقلوب و ربما فداهم الرجل بنفسه حارب دونهم حتي يقتل... و قدمهم في الذکر علي الأنفس لينبه علي مکانتهم و قرب منزلتهم و ليؤذن بأنهم مقدمون علي الأنفس».[14] .

و قال العلامة، السيد شرف الدين رحمه الله: «و هناک نکتة يعرف کنهها علماء البلاغة، و يقدر قدرها الراسخون في العلم العارفون بأسرار القرآن، و هي أن الاية الکريمة ظاهرة في عموم الأبناء و النساء و الأنفس کما يشهد به علماء البيان و لا يجهله أحد ممن عرف أن الجمع المضاف حقيقة في الإستغراق، و إنما اطلقت هذه العمومات عليهم بالخصوص تبيانا لکونهم ممثلي الاسلام، و إعلانا لکونهم أکمل الأنام، و أذانا بکونهم صفوة العالم، و برهانا علي أنهم خيرة الخيرة من بني آدم، و تنبيها ألي أن فيهم من الروحانية الاسلامية و الاخلاص لله في العبودية ما ليس في جميع البرية، و أن دعوتهم إلي المباهلة بحکم دعوة الجميع، و حضورهم خاصة فيها منزل منزلة حضور الامة عامة، و تأمينهم علي دعائه مغن عن تأمين من عداهم، و بهذا جاز التجوز بإطلاق تلک العمومات عليهم بالخصوص. و من غاص علي أسرار الکتاب الحکيم و تدبره و وقف علي أغرانه يعلم أن إطلاق هذه العمومات عليهم بالخصوص إنما هو علي حد قول القائل:


ليس علي الله بمستنکر
أن يجمع العالم في واحد


ـ إلي أن قال: ـ: «بقيت نکتة يجب التنبه لها، و حاصلها: أن اختصاص الزهراء من النساء و المرتضي من الأنفس مع عدم الاکتفاء بأحد السبطين من الأبناء دليل علي ما ذکرناه من تفضيلهم عليه السلام لأن عليا و فاطمة لما لم يکن لهما نظير في الأنفس و النساء کان وجودهما مغنيا عن وجود من سواهما بخلاف کل من السبطين فإن وجود أحدهما لا يغني عن وجود الاخر لتکافئهما، و لذا دعاهما صلي الله عليه و آله و سلم جميعا و لو دعا أحدهما دون صنوه کان ترجيحا بلا مرجح و هذا ينافي الحکمة و العدل، نعم لو کان ثمة في الأبناء من يساويهما لدعاه معهما کما أنه لو کان لعلي نظير من الأنفس أو لفاطمة من النسأء لما حاباهما، عملا بقاعدة الحکمة و العدل و المساواة.[15] .









  1. الطبري: جامع البيان، ج 3: ص 299. و حضور علي عليه السلام للمباهلة سقط في هذا الخبر، تصحيفا أو تحريفا. (م).
  2. السيوطي: الدر المنثور، ج 2: ص 38.
  3. الزمخشري: تفسير الکشاف، ج 1: ص 434.
  4. المرط ـ بالکسرـ: کل ثوب غير محيط.
  5. الرازي: التفسير الکبير، ج 8: ص 85.
  6. القرطبي: الجامع الأحکام القرآن، ج 4: ص 104.
  7. ابن الجوزي: تذکرة الخواص، ص 18.
  8. البحر المحيط، ج 2: ص 479.
  9. منذ احمد، ج 1: ص 185.
  10. الکنجي: کفاية الطالب، الباب 32: ص 142.
  11. قاضي نور الله التستري: إحقاق الحق/مع تعاليق آية الله السيد المرعشي، ج 3: صص 79ـ 46.
  12. تفسير أبي السعود، ج 2: ص 47.
  13. المراغي النيسابوري: تفسير المراغي، ج 3: ص 174.
  14. الزمخشري: الکشاف، ج 1: ص 434.
  15. الشرف الدين: الکلمة الغراء في تفضيل الزهراء عليها السلام، ص 3.