الزهد في الدنيا











الزهد في الدنيا



الزهد في الدنيا و انما يعرف زهد الزاهد فيها اذا کانت في يده و يزهد فيها لا اذا کانت زاهدة فيه. کان اکثر اکابر الصحابة في زمن عثمن و قبله قد درت عليهم اخلاف الدنيا من الفتوحات و العطاء من بيت المال فبنوا الدور و شيدوا القصور و اختزنوا الاموال الکثيرة و خلفوها بعدهم. روي المسعودي انه في ايام عثمن اقتني الصحابة الضياع و المال فکان لعثمن يوم قتل عند خازنه خمسون و مائة الف دينار و الف الف درهم و قيمة ضياعه في وادي القري و حنين و غيرهما مائة الف دينار و خلف ابلا و خيلا کثيرة و بلغ الثمن الواحد من متروک الزبير بعد وفاته خمسين الف دينار و خلف الف فرس و الف أمة و کانت غلة طلحة من العراق الف دينار کل يوم و من ناحية السراة اکثر من ذلک و کان علي مربط عبد الرحمن بن عوف الف فرس و له الف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ الربع من متروکه بعد وفاته اربعة و ثمانين الفا و خلف زيد بن ثابت من الذهب و الفضة ما کان يکسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال و الضياع. و بني الزبير داره بالبصرة و بني ايضا بمصر و الکوفة و الاسکندرية و کذلک بني طلحة داره بالکوفة و شيد داره بالمدينة و بناها بالجص و الآجر و الساج و بني سعد بن ابي وقاص داره بالعقيق و رفع سمکها و أوسع فضاءها و جعل علي أعلاها شرفات و بني المقداد داره بالمدينة و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن و خلف يعلي ابن منبه خمسين الف دينار و عقارا و غير ذلک ما قيمته ثلثمائة الف درهم (ا ه) و لکن ذکره المقداد معهم لمجرد بنائه داره و تجصيص ظاهرها و باطنها لا يخلو من حيف علي المقداد فهل يريدون من المقداد ان يبقي في دار خربة سوداء مظلمة.

و لم يکن علي أقل نصيبا منهم في عطاء و غيره ثم جاءته الخلافة و صارت الدنيا کلها في يده عدا الشام و مع ذلک لم يخلف عند موته الا ثمانمائة درهم لم يکن اختزنها و انما اعدها لخادم يشتريها لاهله فمات قبل شرائها فأين ذهبت الاموال التي وصلت الي يده و هو لم يصرفها في مأکل و لا ملبس و لا مرکوب و لا شراء عبيد و لا اماء و لا بناء دار و لا اقتناء عقار. مات و لم يضع لبنة علي لبنة و لا تنعم بشي ء من لذات الدنيا بل کان يلبس الخشن و يأکل الجشب و يعمل في ارضه فيستنبط منها العيون ثم يقفها في سبيل الله و يصرف ما يصل الي يده من مال في الفقراء و المساکين و في سبيل الله و هو مع ذلک يريد من عماله في الامصار ان يکونوا مثله او متشبهين به علي الاقل و يتفحص عن احوالهم فيبلغه عن عامله علي البصرة عثمان ابن حنيف الانصاري انه دعي الي مأدبة فذهب اليها فيکتب اليه: بلغني ان بعض فتية اهل البصرة دعاک الي مأدبة فأسرعت اليها تستطاب لک الالوان و تنقل اليک الجفان و ما ظننت انک تجيب الي طعام قوم غنيهم مدعو و عائلهم مجفو. و معني هذا ان ابن حنيف يلزم ان لا يجيب دعوة احد من وجوه البصرة فان من يدعو الوالي الي مأدبته لا يدعو معه الا الاغنياء و لا يدعو احدا من الفقراء و ما يصنع الفقراء في وليمة الوالي و هم لا يجالسهم الوالي و المدعوون معه من الاغنياء و لا يواکلونهم و کيف يفعلون ذلک و ثياب الفقراء بالية و هيئاتهم رثة ينفرون منها و من رؤيتها و اذا ارادوا ان يعطفوا علي فقير منهم ارسلوا اليه شيئا من الزاد او المال الي بيته و لم تسمح لهم أنفسهم ان يجالسوهم علي مائدتهم ثم يريد من ابن حنيف ان يقتدي به في زهده فيقول له: و ان لکل مأموم اماما يقتدي به و يهتدي بنور علمه و ان امامکم قد اکتفي من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه. ثم يري ان ذلک غير ممکن فيقول له: ألا و انکم لا تقدرون علي ذلک و لکن أعينوني بورع و اجتهاد و عفة و سداد، ثم يحلف بالله مؤکدا فيقول: فو الله ما کنزت من دنياکم تبرا و لا ادخرت من غنائمها وفرا. ثم يسوقه الا لم من امر فدک الي ذکرها هنا و ما علاقة فدک بالمقام و لکن المتألم من امر يخطر بباله عند کل مناسبة فيقول: بلي کانت في ايدينا فدک من کل ما اظلته السماء فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين. و من الذي يريد ان يعترض عليک يا أمير المؤمنين بفدک و يقول لک انها کانت بيدک فکيف تقول انک لم تدخر شيئا من غنائم الدنيا حتي تجيبه انه لم يکن في يدک من جميع بقاع الارض التي تحت السماء غير فدک. و مع انه قادر علي التنعم في ملاذ الدنيا فهو يترکه زهدا فيها و مواساة للفقراء فيقول: و لو شئت لاهتديت الطريق الي مصفي هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القز و لکن هيهات ان يقودني جشعي الي تخير الاطعمة و لعل بالحجاز او اليمامة من لا عهد له بالقرص و لا طمع له بالشبع. و هو القائل: و الله لان ابيت علي حسک السعدان مسهدا و اجر في الاغلال مصفدا أحب الي من ان القي الله و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و غاصبا لشي ء من الحطام و کيف اظلم احدا لنفس يسرع الي البلي قفولها و يطول في الثري حلولها و الله او اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت افلاکها علي ان اعصي الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلت ما لعلي و نعيم يفني و لذة لا تبقي.

و هو القائل: و الله لقد رقعت مدرعتي هذه حتي استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل الا تنبذها عنک فقلت اعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السري.

(و في اسد الغابة) بسنده عن عمار بن ياسر سمعت رسول الله (ص) يقول لعلي بن ابي طالب يا علي ان الله عز و جل قد زينک بزينة لم يتزين العباد بزينة احب اليه منها الزهد في الدنيا فجعلک لا تنال من الدنيا شيئا و لا تنال الدنيا منک شيئا و وهب لک حب المساکين و رضوا بک اماما و رضيت بهم اتباعا فطوبي لمن احبک و صدق فيک و ويل لمن ابغضک و کذب عليک فاما الذين احبوک و صدقوا فيک فهم جيرانک في دارک و رفقاؤک في قصرک و اما الذين ابغضوک و کذبوا عليک فحق علي الله ان يوقفهم موقف الکذابين يوم القيمة و قال ابن عبد البر في الاستيعاب قد ثبت عن الحسن بن علي من وجوه انه قال لم يترک ابي الا ثمانمائة درهم او سبعمائة درهم فضلت من عطائه کان يعدها لخادم يشتريها لاهله. قال و اما تقشفه في لباسه و مطعمه فاشهر من هذا کله ثم روي بسنده عن عبد الله بن ابي الهذيل قال رأيت عليا خرج و عليه قميص غليظ دارس اذا مد کم قميصه بلغ الي الظفر و اذا ارسله صار الي نصف الساعد (و بسنده) عن عطاء رأيت علي علي قميص کرابيس غير غسيل «و بسنده» عن ابي الهذيل رأيت علي علي بن ابي طالب قميصا رازيا اذا أرخي کمه بلغ اطراف اصابعه و اذا اطلقه صار الي الرسغ «و في اسد الغابة» بسنده عمن رأي علي علي عليه السلام ازارا غليظا قال اشتريته بخمسة دراهم فمن اربحني فيه درهما بعته «و بسنده» عن ابي النوار بياع الکرابيس قال اتاني علي بن ابي طالب و معه غلام له فاشتري مني قميصي کرابيس فقال لغلامه اختر ايهما شئت فاخذ احدهما و اخذ علي الاخر فلبسه ثم مد يده فقال اقطع الذي يفضل من قدر يدي فقطعته و کفه و لبسه و ذهب «و في حلية الاولياء» بسنده عن ابي سعيد الازدي رأيت عليا أتي السوق و قال من عنده قميص صالح بثلاثة دراهم فقال رجل عندي فجاء به فاعجبه قال لعله خير من ذلک قال لا ذاک ثمنه فرأيت عليا يقرض رباط الدراهم من ثوبه فاعطاه فلبسه فاذا هو يفضل عن اطراف اصابعه فامر به فقطع ما فضل عن اطراف اصابعه «و في الاستيعاب» بسنده عن مجمع التميمي ان عليا قسم ما في بيت المال بين المسلمين ثم امر به فکنس ثم صلي فيه رجاء ان يشهد له يوم القيامة «و في حلية الاولياء» بسنده عن مجمع نحوه «و في الاستيعاب» بسنده عن عاصم بن کليب عن ابيه قال قدم علي علي مال من اصبهان فقسمه سبعة أسباع و وجد فيه رغيفا فقسمه سبع کسر فجعل علي کل جزء کسرة ثم اقرع بينهم ايهم يعطي اولا. قال و اخباره في مثل هذا من سيرته لا يحيط بها کتاب و بسنده عن معاذ بن العلاء عن ابيه عن جده سمعت علي بن ابي طالب يقول ما اصبت من فيئکم الا هذه القارورة اهداها الي الدهقان ثم نزل الي بيت المال ففرق کل ما فيه ثم جعل يقول:


افلح من کانت له قوصره
يأکل منها کل يوم مره


«و في حلية الاولياء» بسنده عن ابي عمرو بن العلاء عن ابيه ان علي بن ابي طالب خطب الناس فقال و الله الذي لا اله الا هو ما رزأت من فيئکم الا هذه و اخرج قارورة من کم قميصه فقال اهداها الي مولاي دهقان «و في الاستيعاب» بسنده عن عنترة الشيباني في حديث: کان علي لا يدع في بيت المال مالا يبيت فيه حتي يقسمه الا ان يغلبه شغل فيصبح اليه و کان يقول يا دنيا لا تغريني غري غيري و ينشد:


هذا جناي و خياره فيه
و کل جان يده الي فيه


قال و ذکر عبد الرزاق عن الثوري عن ابي حيان التيمي عن ابيه قال رأيت علي بن ابي طالب يقول من يشتري مني سيفي هذا فلو کان عندي ثمن ازار ما بعته فقام اليه رجل فقال نسلفک ثمن ازار قال عبد الرزاق و کانت بيده الدنيا کلها الا ما کان من الشام «و في حلية الاولياء» بعدة اسانيد عن الارقم و عن يزيد بن محجن و عن ابي رجاء قال الارقم رأيت عليا و هو يبيع سيفا له في السوق و يقول من يشتري مني هذا السيف فو الذي فلق الحبة لطالما کشفت به الکرب عن وجه رسول الله «ص» و لو کان عندي ثمن ازار ما بعته و قال يزيد بن محجن کنت مع علي و هو بالرحبة فدعا بسيف فسله فقال من يشتري سيفي هذا فو الله لو کان عندي ثمن ازار ما بعته و قال ابو رجاء رأيت علي بن ابي طالب خرج بسيفه يبيعه فقال من يشتري مني هذا لو کان عندي ثمن ازار لم ابعه فقلت يا أمير المؤمنين انا ابيعک و أنسؤک الي العطاء «و في رواية» فلما خرج و عطاؤه اعطاني «و في اسد الغابة» بسنده قال علي بن ابي طالب: الدنيا جيفة فمن اراد منها شيئا فليصبر علي مخالطة الکلاب «و بسنده» عن ابي نعيم سمعت سفيان يقول ما بني علي لبنة علي لبنة و لا قصبة علي قصبة و ان کان ليؤتي بحبوبه من المدينة في جراب ثم قال في اسد الغابة: و زهده و عدله لا يمکن استقصاء ذکرهما. و قال ابن ابي الحديد في شرح النهج: اما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد و بدل الابدال و اليه تشد الرحال و تنفض الاحلاس ما شبع من طعام قط و کان أخشن الناس مأکلا و ملبسا قال عبد الله بن ابي رافع دخلت اليه يوم عيد فقدم جرابا مختومما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأکل فقلت يا أمير المؤمنين فکيف تختمه قال خفت هذين الولدين ان يلتاه بسمن او زيت و کان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و بليف اخري و نعلاه من ليف و کان يلبس الکرابيس الغليظ فاذا وجد کمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه فکان لا يزال متساقطا علي ذراعيه حتي يبقي سدي لا لحمة له و کان يأتدم اذا ائتدم بخل او بملح فان ترقي عن ذلک فببعض نبات الارض فان ارتفع عن ذلک فبقليل من ألبان الابل و لا يأکل اللحم الا قليلا و يقول لا تجعلوا بطونکم مقابر الحيوان و کان مع ذلک اشد الناس قوة و أعظمهم ايدا و هو الذي طلق الدنيا و کانت الاموال تجبي اليه من جميع بلاد الاسلام الا من الشام فکان يفرقها و يمزقها ثم يقول: هذا جناي و خياره فيه اذ کل جان يده الي فيه (ا ه) (و في حلية الاولياء) بسنده عن علي بن ربيعة الوالبي قال جاءه ابن النباج فقال يا أمير المؤمنين امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء و بيضاء فقال الله اکبر فقام متوکأ علي ابن النباج حتي قام علي بيت مال المسلمين فقال هذا جناي و خياره فيه و کل جان يده الي فيه يا ابن النباج علي باسباع الکوفة فنودي في الناس فاعطي جميع ما في بيت مال المسلمين و هو يقول يا صفراء و يا بيضاء غري غيري ها و ها حتي ما بقي منه دينار و لا درهم ثم امره بنضحه و صلي فيه رکعتين (و بسنده) عن علي بن ابي طالب انه أتي بفالوذج فوضع بين يديه فقال انک طيب الريح حسن اللون طيب الطعم لکن أکره ان اعود نفسي ما لم تعتده (و بسنده) عن عدي بن ثابت ان عليا اتي بفالوذج فلم يأکل (و بسنده) عن عبد الملک بن عمير عن رجل من ثقيف ان عليا استعمله علي عکبرا قال فقال اذا کان عند الظهر فرح الي فرحت اليه فلم أجد عنده حاجبا فوجدته جالسا و عنده قدح و کوز من ماء فدعا بظبيته[1] .

فقلت في نفسي لقد امنني حتي يخرج الي جوهرا و لا ادري ما فيها فاذا عليها خاتم فکسره فاذا فيها سويق فاخرج منها فصب في القدح فصب عليه ماء فشرب و سقاني فلم اصبر فقلت يا أمير المؤمنين اتصنع هذا بالعراق و طعام العراق اکثر من ذلک قال اما و الله ما أختم عليه بخلا و لکني ابتاع قدر ما يکفيني فأخاف ان يفني فيصنع من غيره و اکره ان ادخل بطني الا طيبا (و بسنده) عن الاعمش کان علي يغدي و يعشي الناس و يأکل هو من شي ء يجيئه من المدينة (و بسنده) عن زيد بن وهب قدم علي علي وفد من اهل البصرة فيهم رجل من اهل الخراج[2] يقال له الجعد بن نعجة فعاتب عليا في لبوسه فقال علي ما لک و للبوسي ان لبوسي أبعد من الکبر و أجدر ان يقتدي بي المسلم (و بسنده) عن عمرو بن قيس قيل لعلي يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصک قال يخشع القلب و يقتدي به المؤمن.









  1. و هي جراب صغير او شبه الخريطة و لکيس و يسميها اهل جبل عامل اليوم ظبوة. المؤلف.
  2. في النسخة من اهل الخوارج و الظاهر انه غلط. المؤلف.