تحليل عزل قيس بن سعد











تحليل عزل قيس بن سعد



کان قيس بن سعد بن عبادة سياسيّاً ماهراً، وذکيّاً ودقيقاً، فعيّنه الإمام عليه السلام في أوائل أيّام خلافته والياً علي مصر، وبعثه إليها.

وأراد الإمام عليه السلام إرسال جيش إلي مصر لدعم ونصرة قيس، بيدَ أنّ قيساً أخذ معه نفراً قليلاً يقلّ عددهم عن السبعة وقائلاً للإمام: حاجتک للجيش أکبر من حاجتي له.

وأخرج محمّد بن أبي حذيفة عبدَ اللَّه بن سعد بن أبي سرح وأعوانه وأنصاره من ممثّلي عثمان في مصر قبل مجي ء قيس إليها، فلمّا وصل قيس تسلّط علي زمام الاُمور بسهولة، واعتمد سياسة مسايرة المخالفين، واستطاع بهذه السياسة أن يُسيطر علي الوضع السائد، ويُهدِّئ العثمانيّين، ويحول دون ثورتهم.

واستمرّ هذا الهدوء مدّة هي دون السنة قطعاً، حيث عزل الإمام قيس بن سعد واستدعاه وولّي عليها محمّد بن أبي بکر؛ وکان شابّاً شجاعاً، لکن لم تکن له قدرة قيس السياسيّة.

وکان عزل قيس ونصب محمّد محلّاً لسؤال وقدح الکثيرين، وبالخصوص

[صفحه 268]

في السنوات التالية؛ حيث ثار الناس علي محمّد بن أبي بکر، وآل الأمر إلي إلقاء القبض عليه وقتله وإحراق جسده.

فکان السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا عزل الإمام عليه السلام السياسي الذکي، وعيّن محلّه هذا الشابّ الناشئ، حتي انتهي به الحال إلي شهادته بهذا الشکل المفجع؟ تُعزي النصوص التاريخيّة السبب إلي مؤامرة حاکها معاوية لتحقيق أهدافه الخبيثة؛ حيث قيل إنّه کان يسعي إلي کسب قيس بأساليبه الخدّاعة، وأرسل إليه عدّة رسائل حرّضه فيها علي الطلب بثأر عثمان، بيد أنّ قيساً کان أذکي من أن تنطلي عليه هکذا، بل احترز عن الإدلاء برأيه الصريح في موافقة معاوية أو مخالفته؛ وذلک لما تميّزت به مصر من المحلّ الاستراتيجي من جهة، وطمع بني اُميّة ونفوذهم فيها، وقربها إلي الشام من جهة اُخري.

بيد أنّ معاوية- هذا السياسي الماکر المتأثّر بمرافقة وإسناد عمرو بن العاص- ابتدع بمکره رسالة مزوّرة عن لسان قيس بن سعد مضمونها تأييد معاوية.[1] .

وذاع خبر هذه الرسالة في الشام، ووصل خبرها إلي الکوفة وإلي الإمام عليّ عليه السلام، فجمع الإمام عليه السلام أعوانه وشاورهم في هذا الموضوع، فکان رأيهم عزل قيس بن سعد وتعيين رجل أصلب منه؛لانتشار خبر هذه الرسالة بين الجيش وبين عامّة المسلمين. جاء في بعض النصوص الإشارة إلي اقتراح عبداللَّه بن جعفر بعزل قيس بن سعد وتعيين، محمّد بن أبي بکر.

وقد حُمل هذا الاقتراح علي محبّة عبداللَّه لأخيه محمّد بن أبي بکر؛ حيث کانا أخوين لاُمّ واحدة.[2] .

[صفحه 269]

وقال بعض المفکّرين: إنّ عزل قيس ونصب محمّد بن أبي بکر کان بسبب الضغوط التي تحمّلها الإمام من أصحابه؛ قال العلّامة المجلسي: وجدت في بعض الکتب أنّ عزل قيس عن مصر ممّا غلب أميرَ المؤمنين عليه السلام أصحابُه واضطرّوه إلي ذلک، ولم يکن هذا رأيه؛ کالتحکيم، ولعلّه أظهر وأصوب.[3] .

وقال بعض المُغرضين: إنّ سبب هذا هو انخداع أميرالمؤمنين عليه السلام بحيلة معاوية.[4] .

والذي وصلنا إليه من مجموع هذه التحليلات والنظريّات أنّها جميعاً بصدد تحليل «النتيجة»لا بصدد تحليل «الاُسلوب»، وبکلمة اُخري إنّ الذي جُعل تحت مجهر البحث هو النتيجة الحاصلة من دون لحاظ الظروف المحيطة والعوامل المؤثّرة الموجودة أو المختلقة آنذاک. وإنّما صُبّ النظر علي موفّقية قيس بن سعد وانهزام محمّد بن أبي بکر. مع أنّ الصحيح هو تحليل هذا الموقف الذي اتّخذه الإمام عليه السلام مع الأخذ بنظر الاعتبار جميع العوامل المؤثّرة، وکلّ ما له دخل في اتّخاذ هذا التصميم من دون غفلة عن الواقع اليومي الحاکم آنذاک، وعلي هذا، نقول في تحليل الموقف:

1- إنّ قيس بن سعد من الشخصيّات السياسيّة البارزة في التاريخ الإسلامي، بل عُدّ من دُهاة العرب الخمسة، ولا شبهة في ذکائه، وممّا يؤيّد ذلک الاطمئنان والهدوء الذي خيّم علي مصر أيّام حکومته.

2- إنّ محمّد بن أبي بکر کان هو الآخر من الشخصيّات البارزة آنذاک، وکان

[صفحه 270]

له محبّة في قلوب المصريّين، حتي أنّ الثائرين علي عثمان طلبوا من عثمان عزل عبداللَّه بن أبي سرح ونصبه بدله، وحين قام عثمان بذلک سافر المصريّون إلي بلادهم. ولهذا کان من الطبيعي أن يميل المصريّون إلي حکومة محمّد بن أبي بکر حين ولي أمير المؤمنين عليه السلام الخلافة أيضاً.

3- عُزل قيس بن سعد في منتصف سنة (36 ه) عن ولاية مصر، وولّي محمّد بن أبي بکر مکانه، فکان مجموع ولايته علي مصر ثمانية أشهر.

وأمّا محمّد بن أبي بکر فقد استمرّت حکومته إلي آخر العام (37 ه) وقد حکمها تلک المدّة باقتدار تامّ، ولم تحصل أيّ فتنة أو ثورة.

4- بعد التحکيم وما أعقبه من تشتّت جيش الإمام واشتداد شوکة معاوية وأصحابه، تغيّرت الأوضاع، ومن جملة ذلک أوضاع مصر؛ حيث اعترض العثمانيّون في مصر بعد سباتهم وهدوئهم قبل ذلک. وهجم جيش الشام بقيادة عمرو بن العاص علي مصر- التي کان يراها حقّه وحصّته من صفقة الصلح مع معاوية- وقد استطاع بمؤازرة العثمانيّين القاطنين في مصر کسرَ جيش محمّد بن أبي بکر، ولم تکن الأوضاع مؤاتية للإمام کي يستطيع إرسال الإمدادت العسکريّة لإسناد محمّد بن أبي بکر، کما لم تکن قوّات محمّد بن أبي بکر بذلک العدد الذي يستطيع مقاومة جيش الشام.

5- اتّضح ممّا سبق أنّ اختيار محمّد بن أبي بکر ونصبه والياً علي مصر اختيار صائب تماماً في ذلک الظرف، کما أنّه علي وفق القواعد السياسيّة. وتبيّن أنّ مدّة حکومته علي مصر تعادل حکومة قيس بن سعد بمرّتين، وأنّ انکسار محمّد بن أبي بکر ناشئ من عوامل ومؤثّرات خارجة عن اختياره.

6- إنّ سياسة قيس بن سعد وإن حافظت علي هدوء مصر لکنّها کانت محطّاً

[صفحه 271]

للسؤال والنقد؛ حيث کان الواجب عليه في أوائل خلافة الإمام- والذي هو أوان قمّة قدرته- أن يُلجئ العثمانيّين الذين في مصر علي البيعة للإمام؛ فإنّه لو کان فعل ذلک لکان اعتراضهم فيما بعدُ محدوداًلا شاملاً، حتي تتهيّأ الأرضيّة المناسبة لتدخّل الجيش الشامي، علماً أنّ هذه التصرّفات لم تکن مرضيّة عند الثوريّين من أصحاب الإمام عليّ عليه السلام، بل لعلّ الإمام عليه السلام لم يکن موافقاً علي ذلک، ولذا فإنّ عزل قيس بن سعد يمکن أن يکون تأييداًلاعتراض هؤلاء الثوريّين.

7- لمّا ثار العثمانيّون في مصر نصب الإمام مالک الأشتر والياً علي مصر، وهو رجل شجاع جري ء، وکانت سمعته العسکريّة طاغية علي سمعته السياسيّة. ومن جهة اُخري فإنّ الإمام أثني علي هاشم بن عتبة، وأيّد أهليّته لحکومة مصر. فتعيين مالک والثناء علي هاشم بن عتبة يکشف عن موافقة الإمام علي المواجهة العسکريّة في مصر، وعدم رضاه بالمداهنة والمصالحة.

8- إنّ الإمام ذکر قيس بن سعد وقال: إنّه صالح لحکومة مصر، بيد أنّه لم ينصّبه مرّة اُخري، بل بعثه إلي بلد بعيد وقليل الأهمّية في هذا الأزمنة مثل أذربيجان.

ولا نمتلک نصّاً تاريخيّاً يدلّ علي مذاکرة الإمام مع قيس في شأن توليته مصر مرّة ثانية.

[صفحه 272]



صفحه 268، 269، 270، 271، 272.





  1. تاريخ دمشق: 5756:425:49، سير أعلام النبلاء: 109:3؛ الغارات: 217:1.
  2. الغارات: 219:1.
  3. بحارالأنوار: 540:33 وراجع أنساب الأشراف: 173:3.
  4. سير أعلام النبلاء: 109:3 و 108.