تحليل في طبقات عمّاله











تحليل في طبقات عمّاله



حکومة الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام التي دامت قرابة خمس سنين جديرة بالبحث والدراسة من جهات متنوّعة. والتأمّل في سيرته المبارکة عليه السلام من جوانب شتّي ذو بُعدٍ تذکيري وتربوي. وعمّاله وولاته يترجمون مفردة مهمّة من مفردات سياسته عليه السلام، من حيث اختيارهم، ومراقبة الإمام لهم بعد الاختيار، وغير ذلک.

تحدّثنا عن هذه الاُمور في فصول هذا الکتاب، والذي نريد ذکره هنا هو أنّنا يمکن أن نقسّم ولاته عليه السلام إلي الأقسام الآتية:

1- الولاة الثقات المتديّنون المعروفون بکفاءتهم الإداريّة وحَنَکتهم وشخصيّتهم الاجتماعيّة الخاصّة. ولنا أن نسمّي هؤلاء طلائع أصحابه والوجوه البارزة فيهم.

وکان هؤلاء أعضاد الإمام عليه السلام ومشاوريه الصالحين المخلصين. منهم: مالک الأشتر الذي ولّاه الإمام في البداية علي الجزيرة (منطقة بين دجلة والفرات، کانت تتمتّع بأهمّية خاصّة لقربها من الشام). ثمّ استعمله علي مصر. ومنهم:

[صفحه 8]

عبد اللَّه بن عبّاس الذي کان والياً علي البصرة. ومنهم: قيس بن سعد بن عُبادة الذي وجّهه إلي مصر، ثمّ جعله علي آذربايجان.

وکان هؤلاء إذا نشبت الحرب لازموا الإمام عليه السلام، ولم يقيموا في العاصمة، ذلک لأنّ اُولي الکفاءة القياديّة وأصحاب الرأي عند المشاورة کانوا قليلين.

إذا ألقينا نظرة تاريخيّة علي هؤلاء، نجد أنّ مالک الأشتر هو الوجه المتألّق الذي لم تَشُبه شائبة قطّ. أمّا ابن عبّاس فإنّ ما اُشيع عليه من أخذ أموال البصرة حقيق بالتأمّل. وأمّا قيس بن سعد فإنّ عزله عن حکومة مصر- مع عظمته- لافت للنظر.

2- الولاة المتديّنون الملتزمون المعتمدون الذين تنقصهم الکفاءة الإداريّة بشکلٍ من الأشکال. فهؤلاء لم يکن لهم باع يُذکر في تدبير الاُمور. ولقد کانوا من الوجهاء، بَيْدَ أنّهم لم يتّخذوا القرار الحاسم في الظروف الحرجة، ولم يتخلّصوا من الأزمات کما ينبغي. فمحمّد بن أبي بکر، مع سموّ قدره، عجز عن تهدئة الوضع في مصر، وفقد قدرة الدفاع حين اضطربت اُمورها. وأبوأيّوب الأنصاري، مع جلالته وعظمته، لم يستطع مواجهة بُسر ولاذ بالفرار. وسهل بن حُنيف لم يسيطر علي الأوضاع في تمرّد أهالي فارس وامتناعهم عن دفع الخراج، فعُزل عن منصبه. وعبيد اللَّه بن عبّاس ولّي مدبراً أمام بُسر. وعثمان ابن حُنيف فَقدَ حزمه في مواجهة مکيدة الناکثين، وأخفق، فأُلقيَ عليه القبض. وکميل بن زياد لم يُطِق غارات معاوية، فهمّ بالمقابلة بالمثل وتوجّه لشنّ الغارة علي مناطق الشام، فلامه الإمام عليه السلام.

3- الولاة الذين ليس لهم عقيدة راسخة، ولم يتمتّعوا بإيمانٍ عميق وإن کانوا ساسة مدبّرين وذوي حسّ إداري فعّال. فهؤلاء لم يتورّعوا عن القبض علي بيت

[صفحه 9]

المال والتلاعب به إسرافاً وتبذيراً. وقد اشتکي منهم الإمام عليه السلام في الأيّام الأخيرة من حياته، وقال: لو ائتمنتُ أحدَکُم علي قدحٍ لأخذَ علاقته.[1] .

ومن هؤلاء: زياد بن أبيه؛ فقد تصرّف في بيت المال بنحوٍ غير مشروع، فاعترض عليه الإمام عليه السلام. ثمّ التحق بمعاوية بعد استشهاد الإمام عليه السلام، ولم يَرعَوِ عن ارتکاب الجرائم.

ومنهم: المنذر بن الجارود. عنّفه الإمام عليه السلام لأ نّه أباح لنفسه التلاعب في بيت المال أيضاً.

ومنهم: النعمان بن عجلان، لامه الإمام عليه السلام أيضاً بسبب بذله الأموال علي قبيلته وتصرّفه غير المشروع فيها لمصلحته، ثمّ فرّ والتحق بمعاوية.

ومنهم: يزيد بن حجية، ومصقلة بن هُبَيرة، والقَعْقاع بن شور، فقد فعلوا فعل أصحابهم المذکورين.

إنّ التأمّل في حياة عمّال الإمام عليه السلام، وتحليل مواقفهم، والنظر في مآل حياتهم السياسيّة، کلّ ذلک ذو بُعدٍ تربوي توجيهي للمرء.

ومن الضروري أن نستعرض في هذا المجال ملاحظات ترتبط بهذا الموضوع:

1- الشخصيّات الفعّالة الموثوق بها کانت قليلة مع الإمام عليه السلام.

وهؤلاء هم الذين کانوا يُنتَدَبون للأعمال في مواطن متنوّعة. وظلّ الإمام عليه السلام في الحقيقة وحيداً بعد استشهاد عدد من عِلية أصحابه في صفّين، وخلا الجوّ من

[صفحه 10]

هؤلاء الأعاظم. وعزم الإمام عليه السلام علي تسريح هاشم بن عتبة إلي مصر بعد عزل قيس بن سعد، بَيْدَ أنّه کان بحاجة إلي شخصيّته القِتاليّة في صفّين؛ لذا أشخص محمّد بن أبي بکر إليها. وعندما استُشهد هاشم في صفّين، لم يجد بُدّاً إلّا إرسال مالک الأشتر إليها مع حاجته الشديدة إلي وجوده معه في مرکز الخلافة الإسلاميّة.

2- کان بين أصحاب الإمام عليه السلام رجال اُمناء صالحون ووجهاء اُولو سابقة مشرقة نقيّة من کلّ شائبة. وهؤلاء کانوا دعائم الحکومة وأعضاد النظام العلَوي. ولا مناص من بقائهم إلي جانب الإمام عليه السلام، إذ کان يشاورهم في شؤون الحکومة.

ومن هؤلاء: الصحابي الجليل عمّار بن ياسر، النصير الوفيّ المخلص للإمام عليه السلام. وکان وجوده مع الإمام ودفاعه السخيّ عنه يقضي علي التردّد، ويُثبّت کثيراً من الذين کانت تضعضعهم الدعايات المسمومة التي تبثّها أجهزة الإعلام الاُموي في الشام ضدّ الإمام عليه السلام.

من جانب آخر، کانت هناک قبائل ما زالت العصبيّات القبليّة متأصّلة في نفوسها، فلم تسمع إلّا کلام رُؤسائها. من هنا، ظلّ رجال مثل عديّ بن حاتم إلي جانب الإمام عليه السلام لتبقي قبائلهم معه أيضاً.

3- إنّ وجود أشخاصٍ مثل زياد بن أبيه بين عمّال الإمام عليه السلام مثير للسؤال. فقد أنفذ الإمامُ الشخصَ المذکور- باقتراح عبد اللَّه بن عبّاس وتأييد جارية بن قُدامة- علي رأس قوّة عسکريّة کبيرة لإخماد تمرّد أهل فارس الذين امتنعوا عن دفع الضرائب، فاستطاع زياد بتدبيره وحنکته السياسيّة الخاصّة أن يسيطر علي الوضع.

کان زياد مطعوناً في نسبه، وکان يتّصف بدهاء عجيب. ويمکن أن نعدّه

[صفحه 11]

نموذجاً للإنسان المتخصّص غير الملتزم الذي جمع بين خبث السريرة وظلمة الروح وبين التدبير والدهاء. وإنّ ملازمته لمعاوية مع تحذيرات الإمام المتکرّرة له، وعمله في «العراقَين» مَعْلَمان علي خبث طينته ودَنَسه الذي لم يظهره في عصر الإمام عليه السلام.

وينبغي الالتفات إلي أنّ الإمام عليه السلام کان يواجه حقائق لا تُنکَر کغيره من الحکّام. وبالنظر إلي ضرورة إدارة المجتمع واستثمار مختلف الطاقات، وبالنظر أيضاً إلي معاناة الإمام عليه السلام من قلّة الأنصار المخلصين فلابدّ له من تولية زياد وأضرابه، بَيْدَ أنّه عليه السلام کان يقرِن ذلک بالإشراف والتحذير، ويراقب الأوضاع بدقّة. وهنا يکمن السرّ في تحذيراته عليه السلام للبعض، ودعوته الناس إلي طاعة البعض الآخر طاعة مطلقة.

4- کان بعض الأشخاص يعملون مع الإمام عليه السلام، لکنّهم کانوا لا يوافقونه في بعض مواقفه!! فزياد لم يشترک في حروبه جميعها. وأبومسعود الأنصاري لم يرغب في الاشتراک في الحروب، وحين نشبت حرب صفّين، وَليَ الکوفة وظلّ فيها. ويزيد بن قيس الذي عُيّن والياً علي إصفهان کان يميل إلي الخوارج، ففرّق الإمام عليه السلام بينه وبينهم بتعيينه.

هذا کلّه آية علي سماحة الإمام عليه السلام من جهة، ومن جهة اُخري مَعْلَم علي ما ذکرناه آنفاً من أنّه کان يواجه حقائق في المجتمع لا محيص له منها.

[صفحه 13]



صفحه 8، 9، 10، 11، 13.





  1. البداية والنهاية: 326:7.