حديث علي من طريق الصنابحي












حديث علي من طريق الصنابحي



فأمّا حديث عليٍّ عليه السلام فقد ورد عنه من طريق الصنابحيّ، وعبيد الله ابن أبي رافعٍ، والشعبيّ.

1 ـ فأمّـا طريق الصنابحـيّ، فقد أخرجـه الترمـذيّ فـي سننـه[1] وابن جرير في تهذيب الآثار[2] عن إسماعيل بن موسي، قال: حدّثنا محمّـد بن عمر الروميّ، حدّثنا شريک، عن سلمة بن کهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ، عن عليٍّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحکمة وعليٌّ بابها.

قال ابن جرير: هذا خبر صحيح سنده.

قلـت:

والحقّ کما قال، فإنّ هذا الحديث بمفرده علي شرط الصحيح، ورجاله کلّهم ثقات.

* أمّا إسماعيل بن موسي الفزاري، فقد روي عنه البخاريّ في خلق أفعال العباد وأبو داود والترمذيّ وابن ماجة وجماعة.

قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صدوق.

وقال مطيّن: کان صدوقاً.

[صفحه 3]

وقال النسائي: ليس به بأس.

وذکره ابن حبّان في الثقات.

وقال أبو داود: صدوق في الحديث، وکان يتشيّع.

وقال ابن عديّ: إنّما أنکروا عليه الغلوّ في التشيّع[3] .

علي أنّـه لـم ينفرد بهذا الحديث عـن ابن الرومـيّ بـل تابعـه عليـه أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ.

وقد أخرج متابعته هذه ابن بطّـة في الاِبانـة[4] ، قال: حدّثنا أبو عليّ محمّـد بن أحمد الصوّاف، حدّثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ، حدّثنا محمّـد بن عمر الروميّ، حدّثنا شريک به.

وأخرجهـا العاصميّ أيضاً في زيـن الفتـي[5] ، قال: أخبرنا محمّـد بن أبي زکريّا، قال: أخبرنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم بن محمّـد بن أحمد الواعظ ـ قراءةً عليه بنيسابور ـ، قال: أخبرنا أبو بکر هلال بن محمّـد بالبصرة، قال: حدّثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبـد الله البصريّ، قال: حدّثنا محمّـد بن عمر بن عبـد الله، قال: حدّثنا شريک، عن سلمة، عن الصنابحيّ، عن عليٍّ عليه السلام ـ وذکر الحديث ـ.

وأخرجهـا الاَنماطـيّ في تاريخ الصحابـة[6] ، قال: حدّثنا أبو بکر بن خلاّد وفاروق الخطّابي، قالا: أخبرنا أبو مسلم الکجّي عن محمّـد بن عمر الروميّ به.

[صفحه 4]

وقال الحافظ صلاح الدين العلائيّ: تابعه ـ يعني الفزاريّ ـ أبو مسلم الکجّي وغيره علي روايته عن محمّـد بن عمر الروميّ[7] .

* وأمّا محمّـد بن عمر بن عبـد الله الروميّ، فقد روي عنه البخاريّ في غير الجامع، وذکره ابن حبّان في الثقات[8] .

قلـت:

يعني حديث الباب، وإنّما أنکره ـ کما أنکره البخاريّ ـ جرياً علي قاعدة النواصب في إنکار فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وسيأتي الکلام علي ذلک إن شاء الله تعالي.

ثـمّ إنّ تصحيح ابن جرير لهذا الحديث دالّ علي توثيقـه لابن الروميّ ـ کما لا يخفي ـ.

فقول أبي زرعة فيه: شيخ فيه لين، وقول أبي داود: محمّـد بن الروميّ ضعيف[9] ، وقول ابن حبّان ـ علي ما حکاه عنه ابن الجوزيّ[10] ـ: کان يأتي عن الثقات بما ليس من أحاديثهم، لا يجوز الاحتجاج به بحالٍ؛ ليس بشيء.

لاَنّ ابن حبّان قد ذکره في الثقات کما مرّ، مضافاً إلي أنّه من المتعنّتين المتشدّدين فـي الجـرح، کمـا بيّـنّا ذلک فـي الاِبـادة[11] ، وغايـة

[صفحه 5]

مـا يمکن للخصم أن يدّعيه أنّه لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فأمّا إذا توبع، فإنّ حديثه يکون ثابتاً محفوظاً، وسيأتي إن شاء الله بيان من تابعه علي هذا الحديث.

وأمّا قول أبي زرعة؛ فتليين مبهم، ولا ينزل حديثه عن درجة الصحيح، وتضعيف أبي داود إيّاه جرح غير مفسَّر، فيُردّ عليه ولا کرامة.

بل قد دلّ قول الذهبيّ في ميزان الاعتدال[12] ـ بعد إيراده الحديث من طريقه ـ: ما أدري مَنْ وَضَعَه؟ علي عدم اعتداده بتضعيف أبي داود له ـ مع ذکره آنفاً ـ إذ لو کان في ابن الروميّ أدني غمزٍ لما تقاعد عن إلصاق الحديث به.

ثمّ يقال للذهبيّ: أليس من خبث السريرة وعمي البصيرة الطعن في هذا الحديث، وأنت تذعن لجودة سنده ونقاوته؟!

بـل مـا لک تحتـار فلا تـدري مَـن وضعـه، لا دريتَ ولا ائتَلَيْتَ، ومـا أحقّ أن يُنشد فيک قول أبي الطيّب:


سمّيت بالذهبيّ اليوم تسميةً
مشتقّةً من ذهاب العقل لا الذهبِ


ولعمر الله إنّ أحداً لم يضع هذا الحديث، بل قد نطق به الصادق المصدوق صلي الله عليه وآله وسلم (وما ينطق عن الهوي * إن هو إلاّ وحيٌ يوحي)[13] بَيد أنّ معشر الناصبة ـ قبّحهم الله وأخزاهم ـ لا يطيقون صبراً علي سماع هذه المنقبة الشريفة وأضرابها، فيقدمون علي ردّها دفعاً بالصدر (ومن أضلّ ممّن اتّبع هواه بغير هديً من الله إنّ الله لا يهدي القوم

[صفحه 6]

الظالمين)[14] .

هـذا، ومـن الفضول اعتراض بعضهـم[15] علـي قول أبـي حاتـم في ابن الرومي: (صدوق)، بقوله: لعلّه حکم عليه بما ظهر له من حاله ولم يتبيّن ضعفه بما وقع له من مرويّاته.

فيُقال له: يا هذا! إنّ أبا حاتم من أئمّة الجرح والتعديل، وبينک وبينه من البون ألف ألف ميل، فکيف تبيّن لک ما لم يتبيَّن له؟!

وهو الذي يقول الذهبيّ في شأن توثيقاته: إذا وثّق أبو حاتم رجلاً فتمسّک بقوله، فإنّه لا يوثّق إلاّ رجلاً صحيح الحديث[16] .

هذا کلّه مضافاً إلي عدم تفرّد ابن الروميّ بحديث الباب، بل قد تابعه عليه محمّـد بن عبـد الله الرقاشي، وهو ثقة ثبت احتجّ به الشيخان والنسائي وابن ماجة، وقد أخرج متابعته عبـد الله بن أحمد بن حنبل في زياداته علي کتاب الفضائل لاَبيه، قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله الکجّي، عن محمّـد بن عبـد الله الرقاشي، قال: حدّثنا شريک بن عبـد الله، عن سلمة بن کهيل، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ عن عليٍّ عليه السلام، مرفوعاً: أنا دار الحکمة وعليٌّ بابها[17] .

وهذا إسناد متّصل لا مطعن فيه لاَحد ولا مغمز؛ لصحّته وثقة نقلته.

وتابعه أيضاً محمّـد بن محمّـد بن سليمان الباغنديّ، وکان ثقةً

[صفحه 7]

صدوقاً، أخرج متابعته ابن المغازلي في المناقب[18] ، قال: أخبرنا محمّـد بن أحمد بن عثمان بن الفرج، قال: أخبرنا محمّـد بن المظفّر بن موسي بن عيسي الحافظ ـ إجـازةً ـ، حدّثنـا الباغنديّ محمّـد بن محمّـد بن سليمان، حدّثنـا شريک، عـن سلمة بن کهيل، عـن سويد، عـن الصنابحيّ، عـن عليّ عليه السلام، عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم، قال: أنا دار الحکمة وعليٌّ بابها، فمن أراد الحکمة فليأتها.

قلـت:

فقول الترمذيّ في العلل الکبير[19] : إنّ هذا الحديث لم يُرْوَ عن أحدٍ من الثقات من أصحاب شريک؛ ناشٍ عن قِصَر في الباع، وقصورٍ في الاطّلاع.

وکذا دعوي المعلِّمي، حيث زعم أنّ هذا الخبر غير ثابتٍ عن شريک[20] ، وأنّ قول الترمذيّ في سننه[21] : روي بعضهم هذا الحديث عن شريک.. إلي آخره، لا ينفي تفرّد ابن الروميّ ـ خلافاً لما ظنّه العلائي ـ لاَنّ کلمة (بعضهم) تصدق بمن لا يعتدّ بمتابعته، إذ قد عرفت أنّ الحديث ثابت عـن شريک بلا نزاع، وأنّ (بعضهـم) ممّن يعتدّ بمتابعته، بل ممّن يحتجّ به بانفراده علي رغم أنف المعلِّمي ومن تبعه.

وممّن تابع ابن الروميّ أيضاً علي حديثه هذا عن شريک: عبد الحميد

[صفحه 8]

ابن بحـر البصريّ، وقـد أخرج متابعتـه أبو نعيـم فـي الحليـة[22] ، قال: حدّثنا أبو أحمد محمّـد بن أحمد الجرجاني، حدّثنا الحسن بن سفيان، حدّثنا عبـد الحميد بن بحر، حدّثنا شريک، عن سلمة بن کهيل، عن الصنابحيّ، عن عليّ عليه السلام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحکمة وعليّ بابها.

قال الحافظ الکنجي ـ بعد إخراجه الحديث من هذا الطريق ـ: هذا حديث حسن عال[23] وقد تبيّن بهذا بطلان دعوي بعض المتکلّفين للحديث انحصار رواية شريک برواية محمّـد بن عمر الروميّ وعبد الحميد بن بحر البصريّ عنه[24] ، إذ قد عرفت أنّ الرقاشي والباغنديّ أيضاً قد رويا هذا الحديث عنه.

* وأمّا شريک بن عبـد الله النخعيّ الکوفيّ، فقد وثّقه ابن معين وأبو داود وإبراهيم الحربيّ، وقال العجليّ: کوفيّ ثقة، وکان حسن الحديث، وقـال يعقوب بن شيبـة: شريک صدوق ثقـة، وقال ابن سعد: کان ثقـةً مأموناً، کثير الحديث[25] .

وقال الحافظ العلائيّ[26] : شريک احتجّ به مسلم وعلّق له البخاريّ، ووثّقه يحيي بن معين والعجليّ، وزاد: حسن الحديث، وقال عيسي بن يونس: ما رأيت أحداً قطّ أورع في علمه من شريک، قال العلائي: فعلي هذا يکون تفرّده حسناً. انتهي.

[صفحه 9]

وقد تشبّث بعض الاَغمار[27] للطعن في حديث شريک هذا بأُمورٍ:

الاَوّل: اختلاط شريک وسوء حفظه.

وجوابه: أنّ ذلک إنّما عرض له في آخر أمره، فسماع المتقدّمين منه ليس فيه تخليط کما قال ابن حبّان في الثقات، وقال العجليّ: من سمع منه قديماً فحديثه صحيح[28] انتهي.

ولا نعلم أحداً ادّعي أنّ ابن الروميّ سمع من شريکٍ بعد اختلاطه، فالاَصل عدمه، والله أعلم.

علـي أنّ الغالب علـي حديث شريک الصحّـة والاستواء ـ کمـا قال ابن عديّ[29] ـ والاختلاط إنّما وقع في بعض حديثه، بل لو کان قد انفرد بحديث الباب لَمـا کان ذلک بضارّنـا شيئاً، إذ ليس انفـراد الراوي وشذوذه ـ إذا کان ثقةً ـ من أسباب ضعفه ولا ضعف ما يرويه ـ کما تقرّر في محلّه ـ بل قد قرّر الحافظ العلائيّ أنّ تفرّد شريکٍ، حَسَنٌ ـ کما مرّ آنفاً ـ.

قلت:

وربّما صحّح الترمذيّ حديثه أو حسّنه إذا انفرد، فکيف إذا توبع في حديثه عن سلمة بن کهيل، وقد تابعه علي هذا الحديث يحيي بن سلمة بن کهيل، عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ[30] .

[صفحه 10]

فإن قيل:

إنّ يحيي بن سلمة بن کهيل ضعيف.

قلنا:

هو من رجال الترمذيّ، وتضعيفه في الحديث لا يضرّه، لاَنّه إن ثبت ذلک في حقّه کان ضعفه محتملاً، غير موجب لترک حديثه، فيجوز إيراد حديثه في المتابعات، علي أنّ ذلک معارض بتوثيقه، فقد ذکره ابن حبّان في الثقات[31] وقوّاه الحاکم ـ کما في الميزان[32] .

وقال في المستدرک: هؤلاء الّذين ذکرتهم في هذا الکتاب ثَبَتَ عندي حديثهم، لاَنّي لا أستحلّ الجرح إلاّ مبيّناً، ولا أُجيزه تقليداً.

قال: والذي أختاره لطالب العلم أن يکتب حديث هؤلاء أصلاً. انتهي[33] .

فالذي يظهر من کلام الحاکم أنّه لم يعوّل علي ما قيل في يحيي بن سلمـة، فيکون حديثـه ثابتاً عنده، بل قد صحّح حديثه في المستدرک[34] ، وقال: ترک حديث يحيي بن سلمة، عن أبيه من المحالات التي يردّها العقل، فإنه لاخلاف أنّه من أهل الصنعة، فلا ينکر لاَبيه أن يخصّه بأحاديث يتفرّد بها عنه. انتهي.

[صفحه 11]

وقد صحّح حديثه الذهبي أيضاً في تلخيص المستدرک[35] ، وقال: ترک حديث يحيي بن سلمة من المحالات التي يردّها العقل. اتنهي.

قلـت:

وفي هذا الکلام شهادة بثقته وصحّة حديثه إذا انفرد عن أبيه، فکيف إذا توبع علي حديثه من طريق صحيح ـ کما هنا ـ؟! فتنبّه.

وقـد بان لک ـ بمـا ذکرنا ـ مـا في قول الترمذيّ فـي العلل الکبير[36] : لا نعرف هذا من حديث سلمة بن کهيل من غير حديث شريک؛ من الغفلة والذهول.

هذا، مضافاً إلي ما قرّروه في علم الحديث من تصحيح حديث الراوي ـ الذي ليس له متابعون ـ بالشواهد المعنويّة، وجَرَوا علي ذلک في تصحيح أحاديث في الصحيحين والموطّأ ومسند أحمد وغيرها، وقد صحّح ابن عبـد البرّ وابن سيّد الناس حديث عبـد الکريم بن أبي المخارق المجمع علي ضعفه لوجود الشواهد المعنويّة لحديثه.

وکذلک حديث الباب، فإنّ له شواهد کثيرة يجزم الواقف عليها بصحّته، ودونک حديث ابن مسعود قال: کنت عند النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم فسُئل عن عليّ عليه السلام، فقال: قُسّمت الحکمة عشرة أجزاء فأُعطي عليٌّ تسعة أجزاء، والناس جزءاً واحداً. رواه أبو نعيم في الحليـة[37] .

الثاني: تدليس شريک.

[صفحه 12]

والطعن في سند الحديث من هذا الوجه جهد العاجز، فلو اعتُبر هذا وأُخذ به لوجب طرح حديث الاَعمش وسفيان الثوري وهشيم وغيرهم من أئمّة أهل الحديث وحفاظه، بل قد قال شعبة: ما رأيت أحداً من أصحاب الحديث إلاّ يدلّس، إلاّ ابن عون وعمرو بن مرّة[38] .

الثالث: تشيّع شريک.

وجواب هذه الشبهة: أنّها تهمةٌ لا يعمل بها النقّاد من أهل الحديث، وإنّما هي نفثة مصدورٍ ناصبيّ ضاق ذرعاً بما ورد في عليّ عليه السلام، فلم يجد طريقـاً لردّهـا إلاّ بهذه الخرافـة ـ کمـا قال شيخنـا أبو اليسر جمال الدين عبـد العزيز بن الصدّيق فسح الله تعالي في عمره ـ.

علي أنّ هذه النسبة لم تثبت في حقّ شريک، بل قال معاوية بن صالح: سألت أحمد بن حنبل عنه؟

فقال: کان عاقلاً صدوقاً محدّثاً شديداً علي أهل الريب والبدع.

وقال الساجي: کان ينسب إلي التشيّع المفرط، وقد حُکي عنه خلاف ذلک.

وقال يحيي بن معين: قال شريک: ليس يقدّم عليّاً علي أبي بکرٍ وعمر أحدٌ فيه خير[39] .

وأين هذا من التشيّع، فضلاً عن الغلوّ والاِفراط؟!

وللنواصب في هذا الباب قاعدة بائدة وشبهة فاسدة، وهي ردّ رواية المبتدعة ـ بزعمهم ـ إذا رووا ما يؤيّد مذهبهم، وقد بيّنّا زيفها في الاِبادة[40] .

[صفحه 13]

فمن شاء فليقف عليها، والله المستعان.

* وأمّا سلمة بن کهيل بن حصين الحضرميّ الکوفيّ، فمتّفق علي توثيقه، وقد أخرج له الجماعة.

* وأمّا سويد بن غَفَلة الجعفيّ الکوفيّ، فقد احتجّ به الستّة، وقال ابن معين والعجليّ: ثقة[41] .

* وأمّا عبـد الرحمن بن عُسيلة الصنابحيّ، فهو ثقة من کبار التابعين احتجّ به الجماعة، ووثّقه ابن سعد والعجليّ وذکره ابن حبّان في الثقات.

وقد ثبت بما حقّقنا أنّ هذا الحديث بمفرده علي شرط الصحيح کما حکم به ابن جرير، فإنّ رجاله کلّهم موثّقون ـ کما عرفت ـ بل لو فرض ضعفه أيضاً، فإنّه غير قادح لِما تقرّر عند أهل هذا الشأن: من أنّ الضعيف إذا تعدّدت طرقه وکثرت شواهده مع تباين مخارجها غلب الظنّ بصدق خبر المجموع وإن کان ذلک لا يحصل بخبر کلّ واحدٍ علي انفراده.

هذا، ولکنّ الترمذيّ قال ـ عقب إخراجه حديث الباب ـ: هذا حديث غريب منکر، وروي بعضهم هذا الحديث عن شريک ولم يذکروا فيه عن الصنابحيّ، ولا نعرف هذا الحديث عن أحدٍ من الثقات غير شريک، وفي الباب عن ابن عبّـاس(2) سنن الترمذيّ: کتاب المناقب ـ باب مناقب عليّ عليه السلام 5 / 637 ـ 638 ح 3723. انتهي.

قلـت:

هذا هو الذي وقفنا عليه من عبارة الترمذيّ في نسخ سننه المتداولة،

[صفحه 14]

ولکن في کون جميع ذلک من کلامه نظر.

أمّا قوله: »غريب« فالظاهر ـ والله أعلم ـ أنّه من کلامه، إذ قد حکاه عنـه جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين کالمحبّ الطبريّ فـي الرياض النضرة، والبغويّ في مصابيح السُنّة، والعلائي في النقد الصحيح، والخطيب التبريزيّ في مشکاة المصابيح، وابن الاَثير الجزري في أسني المطالب، وابن کثير في النهاية، والمناوي في فيض القدير، وآخرون غيرهم[42] .

. لکنّک خبير بأنّ الغريب يجامع الصحيح، کما هو الحال في أکثر الاَحاديث الصحيحة.

وأمّا قوله: »منکَر« فقد مرّ عن أبي حاتم أنّه رمي حديث الباب بالنکارة، وقال أبو عيسي في العلل الکبير[43] : سألت محمّـداً ـ يعني البخاريّ ـ عنه فلم يعرفه، وأنکر هذا الحديث.

قلت:

ما أنکر البخاريّ ولا غيره هذا الحديث إلاّ بناءً علي أصلهم الفاسد الذي أسّسوه في إبطال کلّ ما ورد في فضل أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، أو أکثره، بالحکم علي من روي شيئاً منه بالتشيّع والضعف والنکارة، أو ردّه بما يعارضه ويناقضه من الاَحاديث الموضوعة، کما فعل الجوزجانيّ وغيره من ألدّاء النواصب ـ قبّحهم الله وأخزاهم ـ.

[صفحه 15]

وقال الحافظ أبو سعيد العلائيّ في النقد الصحيح[44] : ليس هذا الحديث من الاَلفاظ المنکَرة التي تأباها العقول، بل هو مثال قوله صلي الله عليه وآله وسلم: أرأف أُمّتي بأُمّتي أبو بکر، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل. وقد حسّنه الترمذيّ وصحّحه غيره.

وقال الحافظ الکنجي في الکفاية[45] ـ عقب هذا الحديث ـ: قد فُسّرت الحکمة بالسُنّة، لقوله عزّ وجلّ (وأنزل الله عليک الکتاب والحکمة)[46] يدلّ علي ذلک صحّة هذا التأويل، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: إنّ الله تعالي أنزل عليَّ الکتاب ومثلـه معـه، أراد بالکتـاب القرآن، ومثلـه معه مـا علّمه الله تعالي من الحکمة، وبيّن له من الاَمر والنهي والحلال والحرام.

فالحکمة هي السُنّة، فلهذا قال صلي الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحکمة وعليّ بابها. انتهي.

وقال المُنـاوي في فيض القديـر[47] فـي شرح حديث الترمذيّ: أي عليّ بن أبي طالب عليه السلام هو الباب الذي يُدخل منه إلي الحکمة، فناهيک بهذه المرتبة ما أسناها، وهذه المنقبة ما أعلاها. انتهي.

هذا، والذي يشهد لعدم کون هذه اللفظة من کلام أبي عيسي الترمذيّ وإنّما هي من زيادات بعض محرّفي الکلم عن مواضعه أنّ البغويّ أورد هذا الحديث في کتابه مصابيح السُنّة، وقد قال في أوّله: وما کان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن ذکر ما کان منکَراً أو موضوعاً[48] .

[صفحه 16]

انتهي.

فعُلم من هذا أنّ لفظة »منکَر« زيادة منکَرة ليست مـن کلام الترمذيّ، وإلاّ لَمـا کان هـذا الحديث مـن شرط کتـاب البغويّ، بـل حکي فيـه عن أبي عيسي أنّه قال: غريب، وزاد عليه هو قوله: إنّ إسناده مضطرب.

ويشهد لِما ذکرنا أيضاً أنّ الفيروزآبادي حکي عن الترمذي أنّه قد حسّن هذا الحديث[49] .

وحکي المحبّ الطبريّ في ذخائر العقبي[50] عن الترمذيّ أنّه قال: حديث حسن، وفي الرياض النضرة[51] : حسن غريب.

ثمّ إنّک لو تأمّلت إسناد حديث الباب لوجدته علي شرط الحسن عند الترمذيّ، فيترجّح بذلک أنّ صاحب الجامع الصحيح قد حکم بحسنه.

قال في العلل الصغير[52] : کلّ حديث يُروي، لا يکون في إسناده مَنْ يُتّهم بالکذب، ولا يکون الحديث شاذّاً، ويُروي من غير وجهٍ نحو ذلک فهو عندنا حديث حسن. انتهي.

فإن قال قائل:

إنّ الترمذيّ لا يُعتمد علي تصحيحه وتحسينه.

قيل لـه:

هذا فيما إذا تفرّد بالتصحيح أو التحسين، أمّا إذا وافقه في ذلک غيره

[صفحه 17]

من أئمّة الحديث فلا[53] .

وستعرف إن شاء الله تعالي أنّ من الاَئمّة مَن حکم بصحّة هذا الحديث ومنهم من حسّنه، والله أعلم.

وأمّا قول الترمذي: »روي بعضهم هذا الحديث عن شريک، ولم يذکروا فيه عن الصنابحيّ«.

فقد أجاب عنه الحافظ صلاح الدين العلائي في النقد الصحيح[54] : بأنّ سويد بن غفلة تابعيّ مخضرم، وروي عن أبي بکر وعمر وعثمان وعليّ وسـمع منهم، فيکون ذکر الصنابحيّ فيه من باب المزيد في متّصل الاَسانيد. انتهي.

ثمّ إنّ هذا التعليق من الترمذيّ لا يعارض حديثه المتّصل الاِسناد الذي أورده في أوّل الباب، لِما عُلم بأنّ من عادته ـ غالباً ـ من تعقيب الاَحاديث الصحيحة والحسنة بالاَحاديث التي وقع فيها وقف أو إرسال، والاَسانيد المعلّقة لا محلّ لها عند أهل الحديث.

بل قد قرّروا أنّ الحديث إذا رواه بعض الثقات الضابطين متّصلاً وبعضهم مرسَلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه فـي وقتٍ، وأرسلـه أو وقفـه فـي وقت فالصحيح أنّ الحکـم لمـن وصلـه أو رفعه سواءً کان المخالف له مثله أو أکثر وأحفظ، لاَنّه زيادة ثقة وهي مقبولة، وهي طريقة الاَُصوليّين والفقهاء والبخاريّ ومسلم ومحقّقي المحدّثين، وصحّحه الخطيب البغدادي ـ کما قال النوويّ ـ[55] .

[صفحه 18]

ومن هنا ظهر بطلان تعلّق بعضهم[56] بإعلال الدارقطنيّ لحديث الباب حيث تکلّم عليه في العلل؛ فقال: هو حديث يرويه سلمة بن کهيل، واختلف عنه فرواه شريک عن سلمة، عن الصنابحيّ، عن عليّ عليه السلام، واختلف عن شريک فقيل: عنه، عن سلمة، عن رجلٍ، عن الصنابحيّ، ورواه يحيي بن سلمة بن کهيل عن أبيه، عن سويد بن غفلة، عن الصنابحيّ ولم يسنده، قال: والحديث مضطرب غير ثابتٍ، وسلمة لم يسمع من الصنابحيّ[57] . انتهي.

فإنّه لا مانع ـ من حيث الطبقة ـ أن يروي سلمة بن کهيل عن الصنابحيّ، فإن ثبت عدم سماعه منه ـ کما زعم الدارقطني ـ فإنّ المحذوف من سلسلة الاِسناد هو سويد بن غفلة، کما أنّه هو الذي ورد مبهماً في الطريق الآخـر الذي ساقـه الدارقطنيّ ـ کمـا عُلم مـن الاَسانيد المتقدّمـة ـ فلا يُعدّ ذلک اضطراباً في السند للعلم بالواسطة المحذوفة.

وقد تَحصّل من ذلک أنّ الحديث متّصل الاِسناد، وأنّ ما وقع فيه من الانقطاع والاضطراب الحادث فإنّما هو من وهم بعض الرواة، وأنّ حکم الدارقطني باضطراب الحديث وعدم ثبوته عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم مبنيّ علي مذهبه من أنّه إذا تعارض في رواية الحديث وقف ورفع، أو إرسال واتّصال حکم بالوقف والاِرسال، وهذه قاعدة ضعيفة ممنوعة عند المحقّقين[58] ، وقد عرفت مذهبهم الصحيح في ذلک.

[صفحه 19]

ولعلّ في قول الترمذيّ: »وفي الباب عن ابن عبّـاس«، إشارة إلي أنّ الحديث وإن کان في سنده مقال ـ عند بعضهم ـ إلاّ أنّ وروده من طريق آخر عن ابن عبّـاس يجبر ذلک، فتأمّل.

وبالجملة، فلم يأت أبو الفرج ابن الجوزيّ ولا غيره ممّن ردّ هذا الحديث وأبطله بعلّةٍ قادحةٍ في حديث شريک سوي دعوي الوضع دفعاً بالصدر ـ کما قال الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي[59] .

هذا کلّه في ما يتعلّق بحديث أمير المؤمنين عليه السلام من طريق الصنابحيّ.


صفحه 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13، 14، 15، 16، 17، 18، 19.








  1. سنن الترمذيّ 5 / 637 ح 3723 کتاب المناقب، باب مناقب عليّ عليه السلام.
  2. تهذيب الآثار 4 / 104.
  3. تهذيب التهذيب 1 / 212 ـ 213.
  4. نفحات الاَزهار 10 / 327.
  5. نفحات الاَزهار 10 / 330.
  6. نفحات الاَزهار 10 / 351.
  7. النقد الصحيح لما اعتُرض عليه من أحاديث المصابيح: 85.
  8. الثقات 9 / 71.
  9. تهذيب التهذيب 1 / 231.
  10. الموضوعات 1 / 353.
  11. الاِبادة لحکم الوضع علي حديث: »ذکرُ عليٍّ عليه السلام عبادة«، مقال منشور في نشرة »تراثنـا«، العدد 49 / محرّم 1418 هـ، ص 76 ـ 120.
  12. ميزان الاعتدال 3 / 668.
  13. سورة النجم 53: 3 و4.
  14. سورة القصص 28: 50.
  15. النقد الصريح لاَجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح: 104.
  16. سير أعلام النبلاء 13 / 247.
  17. کما في صحيفة 52 من »دفع الارتياب«، وفي نسخة من الفضائل: 138 ح 203 عن سلمة بن کهيل، عن الصنابحي، وستعرف في الاَصل إن شاء الله تعالي أنّ الاتّصال هو الصواب، والله أعلم.
  18. مناقب عليّ بن أبي طالب عليه السلام: 87.
  19. العلل الکبير 2 / 942، وقد ورد هذا المضمون في بعض نسخ »الجامع الصحيح« للترمذي بلفظ: ولا نعرف هذا الحديث عن واحد من الثقات عن شريک.
  20. انظر: هامش »الفوائد المجموعة«: 350 ـ 351.
  21. سنن الترمذيّ 5 / 637 ـ 638 ح 3723.
  22. حلية الاَولياء 1 / 64، الموضوعات: 349 ـ 350.
  23. کفاية الطالب: 119.
  24. انظر: هامش »مختصر استدراک الذهبيّ علي مستدرک الحاکم« 3 / 1385.
  25. تهذيب التهذيب 2 / 496 ـ 497.
  26. النقد الصحيح لما اعتُرض عليه من أحاديث المصابيح: 88.
  27. النقد الصريح لاَجوبة الحافظ ابن حجر عن أحاديث المصابيح: 104 ـ 105.
  28. تهذيب التهذيب 2 / 497.
  29. تهذيب التهذيب 2 / 496.
  30. العلل ـ للدارقطني ـ 3 / 247.
  31. الثقات 7 / 595.
  32. ميزان الاعتدال في نقد الرجال 4 / 382 رقم 9527.
  33. الاِفادة بطرق حديث: »النظر إلي عليٍّ عليه السلام عبادة«، للسيّد عبـد العزيز بن الصديق الغماري المغربي، نقلاً عن »مستدرک« الحاکم.
  34. المستدرک علي الصحيحين 4 / 607.
  35. المستدرک علي الصحيحين 4 / 607.
  36. العلل الکبير 2 / 942.
  37. حلية الاَولياء 1 / 64.
  38. تهذيب التهذيب 4 / 382.
  39. تهذيب التهذيب 2 / 497.
  40. الاِبادة لحکم الوضع علي حديث: »ذکرُ عليٍّ عليه السلام عبادة«، انظر: صفحة 94 ـ 98 من نشرة »تراثنـا« ـ العدد 49 لسنة 1418 هـ.
  41. تهذيب التهذيب 2 / 460.
  42. الرياض النضرة 2 / 159، مصابيح السُنّة 4 / 174 ح 4772، النقد الصحيح: 85، مشکـاة المصابيـح ـ المطبوع بهـامش مرقـاة المفاتيـح ـ 5 / 571، أسني المطالب: 70، البداية والنهاية ـ المجلّد الرابع ـ 7 / 358، فيض القدير 3 / 46.
  43. العلل الکبير 2 / 942.
  44. النقد الصحيح: 83.
  45. کفاية الطالب: 119.
  46. سورة النساء 4: 113.
  47. فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 / 46.
  48. مصابيح السُنّـة 1 / 110.
  49. أشعّة اللمعات 4 / 666، نفحات الاَزهار 10 / 198 و264.
  50. ذخائر العقبي: 77.
  51. الرياض النضرة 2 / 159.
  52. سنن الترمذيّ (الجامع الصحيح) 5 / 758.
  53. تحفة الاَحوذيّ 1 / 275.
  54. النقد الصحيح لما اعتُرض عليه من أحاديث المصابيح: 88.
  55. شرح صحيح مسلم 1 / 47 و4 / 147.
  56. النقد الصريح: 106، هامش »مختصر استدراک الذهبي علي مستدرک الحاکم« 3 / 1386.
  57. العلل ـ للدارقطنيّ ـ 3 / 247 ـ 248.
  58. شرح صحيح مسلم 4 / 146 ـ 147.
  59. اللآليَ المصنوعة 1 / 334.ـ