مفاد حديث الغدير











مفاد حديث الغدير



لعل إلي هنا لم يبق مسلک للشک في صدور الحديث عن المصدر النبوي المقدس وأما دلالته علي إمامة مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام، فإنا مهما شککنا في شيئ فلا نشک في أن لفظة المولي سواء کانت نصا في المعني الذي نحاوله بالوضع اللغوي أو مجملة في مفادها لاشتراکها بين معان جمة، وسواء کانت عرية عن القرائن لاثبات ما ندعيه من معني الامامة أو محتفة بها، فإنها في المقام لا تدل إلا علي ذلک لفهم من وعاه من الحضور في ذلک المحتشد العظيم، ومن بلغه النبأ بعد حين ممن يحتج بقوله في اللغة من غير نکير بينهم،وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجالات الادب حتي عصرنا الحاضر، وذلک حجة قاطعة في المعني المراد، وفي الطليعة من هؤلاء مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث کتب إلي معاوية في جواب کتاب له من أبيات ستسمعها ما نصه.


وأوحب لي ولايته عليکم
رسول الله يوم غدير خم


ومنهم: حسان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله:


فقال له: قم يا علي؟ فإنني
رضيتک من بعدي إماما وهاديا


ومن أولئک: الصحابي العظيم قيس بن سعد بن عبادة الانصاري الذي يقول:


وعلي إمامنا وإمام
لسوانا أتي به التنزيل


يوم قال النبي: من کنت مولا
ه فهذا مولاه خطب جليل


ومن القوم: محمد بن عبدالله الحميري القائل:


تناسوا نصبه في يوم خم
من البادي ومن خير الانام


ومنهم: عمرو بن العاصي الصحابي القائل:

[صفحه 341]

وکم قد سمعنا من المصطفي
وصايا مخصصة في علي


وفي يوم خم رقي منبرا
وبلغ والصحب لم ترحل


فأمنحه إمرة المؤمنين
من الله مستخلف المنحل


وفي کفه کفه معلنا
ينادي بأمر العزيز العلي


وقال: فمن کنت مولي له
علي له اليوم نعم الولي


ومن أولئک: کميت بن زيد الاسدي الشهيد 126 حيث يقول:


ويوم الدوح دوح غدير خم
أبان له الولاية لو اطيعا


ولکن الرجال تبايعوها
فلم أر مثلها خطرا مبيعا


ومنهم: السيد إسماعيل الحميري المتوفي 179 في شعره الکثير الآتي ومنه:


لذلک ما اختاره ربه
لخير الانام وصيا ظهيرا


فقام بخم بحيث الغدير
وحط الرحال وعاف المسيرا


وقم له الدوح ثم ارتقي
علي منبر کان رحلا وکورا


ونادي ضحي باجتماع الحجيج
فجاءوا إليه صغيرا کبيرا


فقال وفي کفه حيدر
يليح إليه مبينا مشيرا:


ألا؟ إن من أنا مولي له
فمولاه هذا قضا لن يجورا


فهل أنا بلغت؟ قالوا: نعمت
فقال: اشهدوا غيبا أو حضورا


يبلغ حاضرکم غائبا
وأشهد ربي السميع البصيرا


فقوموا بأمر مليک السما
يبايعه کل عليه أميرا


فقاموا لبيعته صافقين
أکفا فأوجس منهم نکيرا


فقال: إلهي؟ وال الولي
وعاد العدو له والکفورا


وکن خاذلا للاولي يخذلون
وکن للاولي ينصرون نصيرا


فکيف تري دعوة المصطفي
مجابا بها أم هباءا نثيرا؟


احبک يا ثاني المصطفي
ومن أشهد الناس فيه الغديرا


ومنهم: العبدي الکوفي من شعراء القرن الثاني في بائيته الکبيرة بقوله.


وکان عنها لهم في خم مردجر
لما رقي أحمد الهادي علي قتب

[صفحه 342]

وقال والناس من دان إليه ومن
ثاو لديه ومن مصغ ومرتقب


: قم ياعلي؟ فإني قد امرت بأن
ابلغ الناس والتبليغ أجد ربي


إني نصبت عليا هاديا علما
بعدي وإن عليا خير منتصب


فبايعوک وکل باسط يده
إليک من فوق قلب عنک منقلب


ومنهم شيخ العربية والادب أبوتمام المتوفي 231 في رائيته بقوله:


ويوم الغدير إستوضح الحق أهله
بضحياء لا فيها حجاب ولا ستر


أقام رسول الله يدعوهم بها
ليقربهم عرف وينآهم نکر


يمد بضبعيه ويعلم: أنه
ولي ومولاکم فهل لکم خبر؟


يروح ويغدو بالبيان لمشعر
يروح بهم غمر ويغدو بهم غمر


فکان لهم جهر بإثبات حقه
وکان لهم في بزهم حقه جهر


وتبع هؤلاء جماعة من بواقع العلم والعربية الذين لا يعدون مواقع اللغة، و لا يجهلون وضع الالفاظ، ولا يتحرون إلا الصحة في تراکيبهم وشعرهم، کدعبل الخزاعي. والحماني الکوفي. والامير أبي فراس. وعلم الهدي المرتضي. والسيد الشريف الرضي. والحسين بن الحجاج. وإبن الرومي. وکشاجم. والصنوبري. و المفجع. والصاحب بن عباد. والناشي الصغير. والتنوخي. والزاهي. وأبي العلا السروي. والجوهري. وإبن علوية. وإبن حماد. وإبن طباطبا. وأبي الفرج. والمهيار. والصولي النيلي. والفنجکردي. إلي غيرهم من أساطين الادب وأعلام اللغة، ولم يزل أثرهم مقتصا في القرون المتتابعة إلي يومنا هذا، وليس في وسع الباحث أن يحکم بخطأ هؤلاء جميعا وهم مصادره في اللغة ومراجع الامة في الادب.

وهنالک زرافات من الناس فهموا من اللفظ هذا المعني وإن لم يعربوا عنه بقريض لکنهم أبدوه في صريح کلماتهم، أو أنه ظهر من لوائح خطابهم، ومن أولئک الشيخان وقد أتيا أميرالمؤمنين عليه السلام مهنئين ومبايعين وهما يقولان: أمسيت يابن أبي طالب؟ مولي کل مؤمن ومؤمنة[1] فليت شعري أي معني من معاني المولي الممکنة تطبيقه علي مولانا لم يکن قبل ذلک اليوم حتي تجدد به فأتيا يهنئانه لاجله ويصارحانه

[صفحه 343]

بأنه أصبح متلفعا به يوم ذاک؟ أهو معني النصرة أو المحبة اللتين لم يزل أميرالمؤمنين عليه السلام متصفا بهما منذ رضع ثدي الايمان مع صنوه المصطفي صلي الله عليه وآله؟ أم غيرهما مما لا يمکن أن يراد في خصوص المقام؟ لاها الله لا ذلک ولا هذا، وإنما أرادا معني فهمه کل الحضور من انه أولي بهما وبالمسلمين أجمع من أنفسهم وعلي ذلک بايعاه وهنئاه.

ومن أولئک: ألحارث بن النعمان الفهري (أو: جابر) المنتقم منه بعاجل العقوبة يوم جاء رسول الله صلي الله عليه وآله وهو يقول: يا محمد؟ أمرتنا بالشهادتين و الصلاة والزکاة والحج ثم لم ترض بهذا حتي رفعت بضبعي إبن عمک ففضلته علينا وقلت: من کنت مولاه فعلي مولاه. وقد سبق حديثه ص 247 -239 فهل المعني الملازم للتفضيل الذي إستعظمه هذا الکافر الحاسد، وطفق يشکک انه من الله أم انه محاباة من الرسول، يمکن أن يراد به أحد ذينک المعنيين أو غيرهما؟ أحسب أن ضميرک الحر لا يستبيح لک ذلک، ويقول لک بکل صراحة: إنه هو تلک الولاية المطلقة التي لم يؤمن بها طواغيت قريش في رسول الله صلي الله عليه وآله إلا بعد قهر من آيات باهرة، وبراهين دامغة، وحروب طاحنة، حتي جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا. فکانت هي في أميرالمؤمنين أثقل عليهم وأعظم، وقد جاهر بما أضمره غيره ألحارث بن النعمان فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.

ومن أولئک: ألنفر الذين وافوا أميرالمؤمنين عليه السلام في رحبة الکوفة قائلين: ألسلام عليک يا مولانا. فاستوضح الامام عليه السلام الحالة لايقاف السامعين علي المعني الصحيح وقال: کيف أکون مولاکم وأنتم رهط من العرب؟ فأجابوه إنا سمعنا رسول الله صلي الله عليه وآله يقول يوم غدير خم: من کنت مولاه فعلي مولاه[2] عرف القارئ الکريم ان المولوية المستعظمة عند العرب الذين لم يکونوا يتنازلون بالخضوع لکل أحد ليست هي المحبة والنصرة ولا شئ من معاني الکلمة و إنما هي الرياسة الکبري التي کانوا يستصعبون حمل نيرها إلا بموجب يخضعهم لها و هي التي إستوضحها أميرالمؤمنين عليه السلام للملا باستفهام فکان من جواب القوم: انهم

[صفحه 344]

فهموها من نص رسول الله صلي الله عليه وآله.

وهذا المعني غير خاف حتي علي المخدرات في الحجال فقد أسلفنا ص 208 عن الزمخشري في ربيع الابرار عن الدارمية الحجونية التي سألها معاوية عن سبب حبها لاميرالمؤمنين عليه السلام وبغضها له فاحتجت عليه بأشياء منها: إن رسول الله عقد له الولاية بمشهد منه يوم غدير خم، وأسند بغضها له إلي انه قاتل من هو أولي بالامر منه وطلب ما ليس له. ولم ينکره عليها معاوية.

وقبل هذه کلها مناشدة أميرالمؤمنين عليه السلام وإحتجاجه به يوم الرحبة وقد أوقفناک علي تفصيل أسانيده وطرقه الصحيحة المواترة ص 185 -166، وکان ذلک لما نوزع في خلافته وبلغه إتهام الناس له فيما کان يرويه من تفضيل رسول الله صلي الله عليه وآله له وتقديمه إياه علي غيره کما مر ص 183 و 300 و 301 و 304 و 309، وقال برهان الدين الحلبي في سيرته 3 ص 303: إحتج به بعد أن آلت إليه الخلافة ردا علي من نازعه فيها. أفتري والحالة هذه معني معقولا للمولي غير ما نرتأيه وفهمه هو عليه السلام ومن شهد له من الصحابة ومن کتم الشهادة إخفاءا لفضله حتي رمي بفاضح من البلاء، ومن نازعه حتي افحم بتلک الشهادة؟ وإلا فأي شاهد له في المنازعة بالخلافة في معني الحب والنصرة وهما يعمان ساير المسلمين؟ إلا أن يکونا علي الحد الذي سنصفه إنشاء الله وهو معني الاولوية المطلوبة.

والواقف علي موارد الحجاج بين أفراد الامة وفي مجتمعاتها وفي تضاعيف الکتب منذ ذلک العهد المتقادم إلي عصورنا هذه جد عليم بأن القوم لم يفهموا من الحديث إلا المعني الذي يحتج به للامامة المطلقة وهو الاولوية من کل أحد بنفسه وماله في دينه ودنياه ألثابت ذلک لرسول الله صلي الله عليه وآله وللخلفاء المنصوصين عليهم من بعده، نحيل الوقوف علي ذلک علي حيطة الباحث وطول باع المتتبع فلا نطيل باحصاؤها المقام.



صفحه 341، 342، 343، 344.





  1. مر حديث التهنئة باسانيده وتفاصيله ص 283 -270.
  2. راجع ما اسلفناه من أسانيد هذا الحديث ومتنه ص 191 -187.