علم عليّ











علم عليّ



کان عليّ عليه السلام عالماً واسع العلم، و ينبوعاً للحکمة و المعرفة، و يکفينا دلالة علي سعة علم عليّ عليه السلام أن نلقي نظرة علي قطرة من محيط علمه المترامي، أودعها في نهج البلاغة، فنهل منها کلّ عالم، و ارتوي منها کلّ طالب علم، و بهذه النظرة سوف نقف علي مدي سعة علمه و عمق فکره.

إنّ من مفاخر عليّ عليه السلام أنّه کان تلميذ مدرسة الوحي و الرسالة، و تربّي في أحضان النبيّ صلي الله عليه و آله، فَغَذّي النبيّ- و هو محيط العلوم و الفضائل- عليّاً من علمه، و أفاض علي روحه و قلبه من حکمته حتّي قال: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها» و قال: «أنا مدينة الحکمة و عليّ بابها».[1] .

و في لحظات عمره الأخيرة، أودع عليّاً عليه السلام أسراراً عظيمة، قال عنها عليّ عليه السلام: «حدّثني ألف باب يفتح کلّ باب ألف باب».[2] .

لقد ترامت أطراف بحر علم عليّ عليه السلام، و تلاطمت أمواجه، و أترع روحه بعلوم رسول اللَّه صلي الله عليه و آله الفيّاضة، و اطّلع علي الأسرار العلمية، حتّي قال: «سلوني قبل

[صفحه 171]

أن تفقدوني، فلأنا بطُرق السماءِ أعلمُ منّي بطُرق الأرض»[3] .

و لم يکن عليّ عليه السلام عالماً بالعلوم الإسلامية و حسب، بل کان عارفاً بعلوم الأديان السابقة و أحکامها، حتّي إنّه کان قادراً علي أن يحکم بين أهل کلّ ملّة بأحکامهم، فکان يقول عليه السلام: «فإنّ عندي علم الأوّلين و الأخرين، أما واللَّه لو ثنيت لي الوسادة، ثمّ جلست عليها، لحکمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الزبور بزبورهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، حتّي ينادي کلّ کتاب بأنّ عليّاً حکم بحکم اللَّه فيّ».[4] .

و قد تحدّث عليّ عليه السلام علي مدي حياته في أسرار القرآن و العلوم الإسلامية المختلفة و المسائل الفلسفية و الکلامية المعقّدة، و أجاب الإجابة الصحيحة علي أسئلة العلماء المعقّدة الصعبة، و لم يکن غيره يقوي علي هذه الإجابة، و لولاه لبقيت تلک المسائل ألغازاً لا تُحلّ و أموراً مبهمة غامضة يحير فيها أبناء البشر طوال تاريخهم.

و جملة القول فإنّ عليّاً عليه السلام کان کتاب اللَّه المتحرک و القرآن الناطق و القلب الملي ء بينابيع العلوم القرآنية و علوم النبيّ صلي الله عليه و آله، و المفيض علي العلماء و طلاّب العلم و مسائل الإسلام و أحکامه بجوانبها المتعدّدة، و القلم و البيان عاجزان عن ذکر أسراره و علومه.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه و خصومه بالفضل، و لم يمکن جحد مناقبه و لا کتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولي بنواُميّة علي سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها، و اجتهدوا بکلّ حيلة في إطفاء نوره، و التحريض عليه و وضع المعايب و المثالب له، و لعنوه علي جميع المنابر،

[صفحه 172]

و توعّدوا مادحيه، بل حبسوهم و قتلوهم، و منعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذکراً، حظروا أن يسمّي أحدٌ باسمه، فما زاده ذلک إلّا رفعةً و سُمّواً، و کان کالمسک کلّما ستر انتشر عرفه، و کلّما کتم تضوَّع نشره، و کالشّمس لا تستر بالرّاح، و کضوءِ النّهار إن حُجبت عنه عين واحدة أدرکته عيون کثيرة.

ثمَّ قال: و ما أقول في رجل تُعزي إليه کلّ فضيلة، و تنتهي إليه کلّ فرقة، و تتجاذبه کلّ طائفة، فهو عليه السلام رئيس الفضائل و ينبوعها و أبوعُذرها، و سابق مضمارها و مُجلِّي حَلبتها، کلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، و له اقتفي، و علي مثاله احتذي.

ثمّ إنّ ابن أبي الحديد ذکر أقسام العلوم، و ذکر في کلّ قسم منها أنّ عليّاً عليه السلام رئيسه، و أنّ ذلک العلم ينتهي إليه، فقال ما ملخصه:

الف- و قد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، و معلومه أشرف الموجودات، فکان هو أشرف العلوم، و من کلامه عليه السلام اقتبس و عنه نقل و إليه انتهي و منه ابتدأ، فإنّ المعتزلة تلامذته و أصحابه عليه السلام؛ لأنّ کبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبداللَّه بن محمّد بن الحنفية، و أبو هاشم تلميذ أبيه، و أبوه تلميذه عليه السلام. و أمّا الأشعريّة فإنّهم ينتهون إلي أبي الحسن الأشعري و هو تلميذ أبي علي ألجُبّائي، و أبوعلي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بالتالي إلي اُستاذ المعتزلة و مُعلّمهم و هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و أمّا الإمامية و الزيديّة فانتماؤهم إليه ظاهر.

ب- و من العلوم علم الفقه، و هو عليه السلام أصله و أساسه، و کلّ فقيه في الاسلام فهو عيالٌ عليه، و مستفيد من فقهه؛ أما أصحاب أبي حنيفة کأبي يوسف و محمّد و غيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة، و أما الشافعي فقرأ علي محمّد بن الحسن، فيرجع فقهه إلي أبي حنيفة، و أما أحمد بن حنبل، فقرأ علي الشافعي، فيرجع فقهه

[صفحه 173]

أيضاً إلي أبي حنيفة، و أبوحنيفة قرأ علي جعفر بن محمّد عليه السلام، و قرأ جعفر علي أبيه عليه السلام، و ينتهي الأمر إلي عليّ عليه السلام.

و أما مالک بن أنس، فقرأ علي ربيعة الرأي، و قرأ ربيعة علي عکرمة، و قرأ عکرمة علي عبداللَّه بن عباس، و قرأ عبداللَّه بن عباس علي علي بن أبي طالب عليه السلام.

و إن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته علي مالک کان لک ذلک، فهؤلاء الفقهاء الأربعة، و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر، و أيضاً فان فقها الصحابة کانوا: عمر بن الخطاب، و عبداللَّه بن عباس؛ و کلاهما أخذ عن علي عليه السلام. أمّا ابن عباس فظاهر، و أمّا عمر فقد عرف کلّ أحد رجوعه إليه في کثير من المسائل الّتي أشکلت عليه و علي غيره من الصحابة، و قوله غير مرّة: «لولا عليّ لهلک عمر»، و قوله أيضاً: «لابقيتُ لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن»، فقد عرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه عليه السلام.

و قد روت العامّة و الخاصّة قوله صلي الله عليه و آله: «أقضاکم عليّ» و القضاء هو الفقه، فهو إذن أفقههم.

ج- و من العلوم: علم تفسير القرآن، و عنه اُخذ، و منه فرّع، و إذا رجعت إلي کتب التفسير علمت صحة ذلک، لأنّ أکثره عنه عليه السلام و عن عبداللَّه بن عبّاس، و قد علم النّاس حال عبداللَّه بن عبّاس في ملازمته له عليه السلام و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه و خرّيجه، و قيل له: أين علمک من علم ابن عمّک؟. فقال ابن عبّاس: کنسبة قطرة من المطر إلي البحر المحيط.

د- و من العلوم علم الطريقة و الحقيقة، و قد عرفت أنّ أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون و عنده يقفون، و قد صرّح بذلک الشبلي و الجُنيد

[صفحه 174]

و سَرِيّ[5] و أبو يزيد البسطامي و غيرهم.

ه- و من العلوم: علم النحو و العربيّة، و قد علم النّاس کافّة أنّه هو الّذي ابتدعه و أنشأه، و أملي علي أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أُصوله، من جملتها: الکلام کلّه ثلاثة أشياء: أسمٌ، و فعلٌ، و حرفٌ، و من جملتها: تقسيم الکلمة إلي معرفة و نکرة، و تقسيم وجوه الإعراب إلي الرّفع و النّصب و الجرّ و الجزم، و هذا يکاد يُلحق بالمعجزات، لأنّ القوّة البشريّة لا تفي بهذا الحصر، و لا تنهض بهذا الاستنباط.[6] .



صفحه 171، 172، 173، 174.





  1. تقدّم الحديثان مع تخريجهما في الفصل الثالث في «حديث مدينة العلم».
  2. ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق، ج 2، ص 484.
  3. نهج البلاغة، الخطبة 189.
  4. فرائد السمطين، ج 1، ص 338، ح 261.
  5. هو سريّ بن المعلّي السقطي، أبوالحسن من کبار المتصوّفة، و هو خال الجُنيد و اُستاذه وُلِد في بغداد و توفّي بها سنة 203ه. الاعلام للزرکلي، ج 3، ص 82.
  6. شرح ابن أبي الحديد المعتزلي، ج 1، ص 20 -16.