القاضي في نظره











القاضي في نظره



و في عهده إلي مالک رضي الله عنه أوضح أميرالمؤمنين عليه السلام ما يجب أن يتحلّي به القاضي من صفات و فضائل، و سنبيّن باختصار ما جاء في هذا العهد بخصوص

[صفحه 437]

الطبقة الثالثة من طبقات الناس (قضاة العدل).

1- قال عليه السلام: «ثمُّ اخْتَر لِلْحُکْم بَيْنَ النَّاس أفْضَلَ رَعِيَّتِکَ».

لابدّ من اختيار أفضل النّاس للتصدّي للقضاء؛ لأنّ الناس لا يمکن أن يطيعوا شخصاً هم أفضل منه، حيث إنّ تقديم المفضول عل الفاضل خلاف العقل، کما أنّ حکم غير المتّقي علي المتّقي و کذلک حکم غير المتعلّم علي المتعلّم ممنوع و قبيح عقلاً.

2- «مِمَّنْ لاَ تَضِيْقُ بِهِ الاُموْرُ».

يجب أن يکون القاضي متعلّماً بحيث إنّه قادر علي تحليل و تجزئة المسائل و أن لا يکون في حَرَج و ضيق ممّا يواجه من الحوادث.

3- «وَ لاَ تَمْحَکُهُ الْخُصُوْمُ».

تمحکه من المحک و هو التجربة و الاختبار، يعني أنّ القاضي يجب أن يکون في الهيبة و الوقار بحيث لا يسمح للخصمين أن يحاولا اختباره فيما إذا کان يقبل الرشوة بالمال أو بإظهار المحبّة و الاحترام، و جاء في شرح ابن أبي الحديد: تجعله ماحکاً أي لجوجاً، محک الرجل: لجّ، ماحک زيد عمراً: لاجّه[1] ، يعني: يجب أن يکون عليه من صفات الهيبة و الوقار بحيث لم يجرؤ الطرفان المتخاصمان أن يلجّا في حکمه أو يناقشاه.

4- «و لا يَتَمادَي في الزَّلَّة».

إذا أخطأالقاضي في حکمه و أحسّ بالخطأ، فعليه أن لا يصرّ و لا يستمرّ عليه، بل عليه الاعتراف و عدم التمادي؛ لأنّ ذلک يؤدّي به إلي مجانبة الحقّ و العدل.

[صفحه 438]

5- «و لا يحصرُ مِنَ الفي ء إلي الحَقّ إذا عَرَفَهُ».

يحصر: أي يعيا في المنطق، و الفي ء: الرجوع إلي الحقّ، يعني يجب أن يکون القاضي صريحاً في عودته إلي الحقّ إذا عرفه دون تردّد أو شکّ کي يحقّ الحقّ و يبطل الباطل.

6- «و لا تشرفُ نَفْسُه عَلَي طَمَعٍ».

يجب أن لا يشغل نفسه بالنظر إلي ما في أيدي الناس، و أن لا يکون من أهل الطمع، فهو ذو مقامٍ عالٍ استلهمه من الخالق العزيز للحکم بين النّاس، لذا يجب عليه الحفاظ علي هذا المقام و أن لا ينزل به إلي مستويً منحطّ، إلي المادة و طمع الدّنيا.

7- «و لا يکتفي بأدْنَي فهم دُوْنَ أقْصاه».

يجب علي القاضي التروّي في الحکم و أن لا يقضي بسرعة و بأدني فَهمْ؛ لأنّ ذلک يؤدّي به إلي الخطأ و الزلل، فعليه أن يناقش القضيّة من کلّ جوانبها، و يسمع من الخصمين سماعاً دقيقاً، کي تتّضح المسألة لديه و يحکم علي أساسها.

8- «وَ أَوْقَفهُم في الشُّبُهاتِ».

الشبهات: ما لا يتضّح الحکم فيه بالنصّ، و فيها ينبغي الوقوف علي القضاء حتّي يردّ الحادثة إلي أصل صحيح، فعلاوة علي کون القاضي أفضل الرعيّة فعليه أيضاً أن يتوقّف عند الشبهة، و أن لا يأخذه الغرور بما لديه من المعلومات، و أن لا يعتبر السؤال و المشاورة عيباً و عاراً عليه، بل العيب و العار هو التکبّر و الغرور و الوقوع في مزالق الباطل.

9- «و آخذَهُم بالْحُجَج».

أي عليه الاعتماد علي الدليل و البرهان، و أن يحکم علي أساس الحُجج و القوانين و الأحکام، و لا يکتفي بما يتصوره في ذهنه و حسب.

[صفحه 439]

10- «وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّمَاً بِمُراجَعَةِ الخَصْمِ».

التبرّم: الملل و الضجر، حيث ينبغي أن يکون القاضي أقلّ النّاس تضجرّاً من الطرفين المتنازعين، و أن يکون متحمّلاً صبوراً في الإصغاء للخصمين حتّي تنتهي الدعوي و لا يملّ من کلامهما.

11- «وَ أَصْبَرهُمْ عَلَي تَکَشُّف الاُمور».

يجب أن يکون القاضي أکثر النّاس صبراً، و ذلک لأجل کشف الحقائق و تجلّيها، و أن لا يقطع بالحکم حتّي تتبيّن له کلّ مطالب القضيّة، و لا يکتفي بتقرير إجمالي لها و حسب.

12- «وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتّضاحِ الْحُکْم».

أصرمهم: أي أقطعهم للخصومة و أمضاهم، فإن اتّضح الأمر، عليه أن يکون قاطعاً حاسماً في اتخاذ القرار، و أن لا يؤجّله و يسوّفه جاعلاً النّاس في حيرة.

13- «مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيةِ إطْرَاءٌ».

لا يزدهيه إطراء: أي لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، فعليه أن لا يشعر بالکبر و الزهو لما يسمعه من إطراء و مدح الآخرين.

14- «و لاَ يَسْتَمِيْلُهُ إغراءٌ».

علي القاضي أن لا يحکم وفقاً للمغريات الّتي يقدمها أحد طرفي النزاع و لا تنطلي عليه حيلة أحد الطرفين بحيث يستهويه و يحکم له.

من الطبيعي أنّ وجود قاضٍ تتمثّل به هذه الصفات القيّمة يعدّ نادراً و قليلاً، و قد قال أميرالمؤمنين عليه السلام: «و اُولئک قليل».[2] .

[صفحه 440]



صفحه 437، 438، 439، 440.





  1. شرح ابن ابي الحديد، ج 17، ص 59.
  2. انظر العهد کاملاً في نهج البلاغة، الکتاب 53.