في عفو عليّ و مروءته











في عفو عليّ و مروءته



قال جورج جرداق المسيحي في مقتل أميرالمؤمنين علي عليه السلام: کلّ ما في الطبيعة کان يعصف بالثورة إلّا وجه عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقد انبسط لا يحدّث بانتقام، و لا يشير إلي اشتباک، فإنّ العوّاد وقفوا بباب الإمام و کلّهم جازع متألّم باک يدعو إلي اللَّه أن يرحم أميرالمؤمنين فيشفيه، و يشفي به آلام النّاس، و کانوا قد شدّوا علي ابن ملجم فأخذوه، فلمّا أدخلوه عليه قال: «أطيبوا طعامه، و ألينوا

[صفحه 426]

فراشه».[1] .

و قال أيضاً: و مروءة الامام أندر من أن يکون لها مثل في التاريخ، و حوادث المروءة في سيرته أکثر من أن تعدّ.

منها: أنّة أبي علي جنده - و هم في حال من النقمة و السخط - أن يقتلوا عدوّاً تراجع، و أن يترکوا عدوّاً جريحاً فلا يسعفوه، کما أبي عليهم أن يکشفوا ستراً، أو أن يأخذوا مالاً.

و منها: أنّه صلّي في وقعة الجمل علي القتلي من أعدائه و سأل لهم الغفران، و أنّه حين ظفر بألدّ أعدائه الّذين يتحيّنون الفرص للتخلّص منه - و هم عبداللَّه بن الزّبير و مروان بن الحکم، و سعيد بن العاص - عفا عنهم و أحسن إليهم، و أبي علي أنصاره أن يتعقّبوهم بسوءٍ، و هم علي ذلک قادرون...

و منها: أنّه ظفر بعمرو بن العاص، فأعرض عنه و ترکه ينجو بحياته و يستمرّ في مؤامرته ضدّه، لأنّ عَمْراً هذا رجاه علي اُسلوب خاصّ[2] أن يعفو عنه، و قد أصبح ذوالفقار فوق هامته، إلي آخر کلامه.[3] .

و قال العقّاد في بيان مروءته عليه السلام: و يزيدها تشريفاً أنّها ازدانت بأجمل الصفّات الّتي تزين شجاعة الشجعان الأقوياء، فلا يعرف النّاس حلية للشجاعة أجمل من تلک الصفّات الّتي طبع عليها عليّ عليه السلام بغير کلفة، و لا مجاهدة رأي، و هي التورّع عن البَغي، و المروءة مع الخصم، قويّاً أو ضعيفاً علي السواء، و سلامة الصدر من الضغن علي العدوّ بعد الفراغ من القتال.

فمن تورّعه عن البغي، مع قوّته البالغة و شجاعته النادرة، أنّه لم يبدأ أحداً قطّ

[صفحه 427]

بقتالٍ و له مندوحة عنه، و کان يقول لابنه الحسن: «لا تدعونَّ إلي مبارزة، فإن دعيت إليها فأجب، فإنّ الدّاعي إليها باغ، و الباغي مصروع».

و علم أنّ جنود الخوارج يفارقون عسکره ليحاربوه، و قيل له: إنّهم خارجون عليک فبادرهم قبل أن يبادروک، فقال: «لا أُقاتلهم حتّي يقاتلوني... و سيفعلون».

و کذلک فعل قبل وقعة الجمل، و قبل وقعة صفّين، و قبل کلّ وقعة صغرت أو کبرت و وضح فيها عداءُ العدوّ أو غمُض... يدعوهم إلي السّلم، و ينهي رجاله عن المبادأة بالشرّ، فما رفع يده بالسّيف قطّ إلّا و قد بسطها قبل ذلک للسلم؛ و ساق الکلام إلي أن قال:

و أمّا مروءته في هذا الباب، فکانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان، فأبي علي جنده و هم ناقمون أن يقتلوا مُدبراً أو يجهزوا علي جريحٍ، أو يکشفوا ستراً، أو يأخذوا مالاً، و صلّي في وقعة الجمل علي القتلي من أصحابه و من أعدائه علي السواء، و ظَفر بعبداللَّه بن الزّبير، و مروان بن الحکم، و سعيد بن العاص، و هم ألدّ أعدائه المؤلّبين عليه، فعفا عنهم و لم يتعقّبهم بسوء، و ظفر بعمرو ابن العاص و هو أخطر عليه من جيش ذي عدّة، فأعرض عنه و ترکه ينجو بحياته حين کشف عن سوأته إتّقاءً لضربته.

و حال جند معاوية بينه و بين الماء في معرکة و هم يقولون له: و لا قطرة حتّي تموت عطشاً... فلمّا حمل عليهم و أجلاهم عنه سوّغ لهم أن يشربوا منه کما يشرب جنده.

و زار السيّدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفيّة أم طلحة الطلحات: أيتم اللَّه منک أولادک کما أيتمتَ أولادي. فلم يردّ عليها شيئاً، ثمَّ خرج فأعادت عليه ما استقلبته به فسکت و لم يردّ عليها، فقال رجل أغضبه مقالها: يا أميرالمؤمنين، أتسکت عن هذه المرأة و هي تقول ما تسمع؟ فانتهره و هو يقول:

[صفحه 428]

«ويحک، إنّا اُمرنا أن نکفّ عن النساء و هنُ مشرکات، أفلا نکفّ عنهنّ و هنّ مسلمات؟»، ثمّ ودّع السيدة عائشة أکرم و داع و سار في رکابها أميالاً و أرسل معها من يخدمها و يخفّ بها.

إلي أن قال: و هذه المروءة کانت سنّته مع خصومه، من استحقّ منهم الکرامة و من لم يستحقّها، من کان في حرمة عائشة، و من لم تکن له قطّ حرمة، و هي أندر مروءة عرفت من مُقاتل في و غر القتال.[4] .

و علينا أن نذکر موارد من عفوه و مروءته حين حکومته و قدرته حتّي تتضح للقرّاء الکرام سيرة اُسوة التقوي و إمام الهدي في هذا المجال.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في (شرح نهج البلاغة): و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسّيوف و شتموه و لعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السّيف عنهم، و نادي مناديه في أقطار العسکر: ألا لا يتبع مولّ، و لا يُجهز علي جريح، و لا يقتل مستأسر، و من ألقي سلاحه فهو آمن، و من تحيّز إلي عسکر الإمام فهو آمن، و لم يأخذ أثقالهم و لا سبي ذراريهم و لا غنم شيئاً من أموالهم، و لو شاء أن يفعل کلّ ذلک لفعل، و لکنّه أبي إلّا الصّفح و العفو، و تقيّل سنّة رسول اللَّه عليه السلام يوم فتح مکّة، فإنّه عفا و الأحقاد لم تبرد، و الإساءة لم تنس.[5] .

و قال ابن أبي الحديد أيضاً: و لمّا ملک عسکر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات، و قالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش کما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم عليّ عليه السلام و أصحابه أن يسوّغوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا و اللَّه و لا قطرة حتّي تموت ظمأً کما مات ابن عفان، فلمّا رأي عليه السلام أنّه الموت لا محالة، تقدّم بأصحابه و حمل علي عساکر معاوية حملات کثيفة حتّي أزالهم عن مراکزهم بعد

[صفحه 429]

قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس و الأيدي، و ملکوا عليهم الماء، و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه و شيعته: امنعهم الماء - يا أميرالمؤمنين - کما منعوک، و لا تسقهم منه قطرة، و اقتلهم بسيوف العطش، و خذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لک إلي الحرب، فقال: «لا و اللَّه لا أُکافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السّيف ما يغني عن ذلک.[6] .


ملکنا فکان العفو منا سجيّة
فلمّا ملکتم سال بالدم أبطح


فحسبکم هذا التفاوت بيننا
فکلّ إناء بالّذي فيه ينضح[7] .



صفحه 426، 427، 428، 429.





  1. الإمام عليّ صوت العدالة الانسانية، ج 4، ص 1004.
  2. و هو کشف عورته في أرض المعرکة خشية من سيف أميرالمؤمنين عليه السلام الذي تمکّن من رقبته.
  3. الإمام عليّ صوت العدالة الانسانية، ج 1، ص 82.
  4. عبقرية الإمام عليه السلام لعباس محمود العقاد، ص 18.
  5. شرح ابن أبي الحديد، ج 1، ص 23.
  6. نفس المصدر.
  7. الإمام عليّ للرحماني، ص 482.