سيرته في بيت المال
«لَو قد اسْتَوَتْ[1] قَدَمَاي مِن هَذِهِ المَدَاحِضِ[2] لَغَيَّرْتُ أشياءَ».[3] . هذه واحدة من کلماته عليه السلام الملتهبة بالأسف علي الإسلام و المسلمين حيث حرّفوا مجري أحکام الدين، و غيّروا الحقائق باتّباعِ الهوي، أو بسبب الجهل بها، و هو يتحرّق لهذا الانحراف و الانعطاف الجاهلي الّذي يَرجع بالإسلام القهقري، و يوقف سيره نحو الدّرجات العلي، فما لبث رويداً حتّي ظهر بأسهم بينهم، و تفرّقوا مذاهب شتّي. [صفحه 374] و في موقف آخر يبدي سخطه عليه السلام لاحتکار بني اُميّة الثروة الإسلامية و يتوعّدهم قائلاً حين منعه سعيد بن العاص حقّه: «إنّ بني اُميّة لَيُفَوِّقُونَني [4] تُراثَ مُحمَّدٍ صلي الله عليه و آله تَفويقاً، و اللَّه لَئن بَقيتُ لَهُم لأنْفضَنَّهُمْ نَفْض اللَّحّام الوذامَ[5] التَّربَة».[6] . لقد کانت قطائع و أراضي جعلها عمر ملکاً خاصّاً لبيت المال، ثمَّ جاء عثمان فأقطعها لأوليائه و أعوانه و ولاته و أهل بيته، فلمّا جاء عليّ عليه السلام ألغي تصرفات عثمان هذه، و قرّر ردّها إلي ملکيّة الدّولة الاسلامية و حوزة بيت المال، و قال: «و اللَّه لو وجدته- المال- قد تُزوّج به النساء، و ملک به الإماء لرددتُه، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق».[7] . و في العطاء أحدث عليه السلام تغييراً ثوريّاً، لعلّه کان من أخطر التغييرات الثوريّة الّتي قرّرها، و التي أراد بها العودة بالمجتمع إلي روح التجربة الثورية الاسلامية الاُولي، و العطاء هو نظام قسمة الأموال العامّة بين النّاس جنوداً کانوا أم غيرهم، و سواء کانوا من أصل عربيّ أو کانوا من الموالي، أو غير ذلک. و لمّا جاء عمر بن الخطاب ألغي نظام التسوية بين النّاس في العطاء، ثمَّ کان عهد عثمان الّذي أقرّ القانون السابق، ثمَّ سار علي دربه أشواطاً و أشواطاً، حتّي أصبح الاختلاف الطبقي نظاماً بشعاً، بلغت بشاعته حدّاً جعل النّاس يثورون علي عثمان، ثمَّ انتهت ثورتهم بقتله و تولية أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خليفةً للمسلمين. و من هنا کان قرار عليّ عليه السلام بالعدول عن تمييز النّاس في العطاء و العودة إلي نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، و لذا اعترضوا علي موقف عليّ عليه السلام. [صفحه 375] و کان أوّل من اعترض عليه عليه السلام طلحةُ بن عبيداللَّه، و الزبير بنُ العوّام، و عبداللَّه بن عمر، و سعيد بن العاص، و مروان بن الحکم، و رجال من قريش و غيرها، و لقد بلغوا في معارضتهم لقرار التسوية هذا حدّ نقض بيعتهم لعليّ عليه السلام، و إعلان الحرب عليه تحت ستار الطلب بدم عثمان، مع أنّهم هم الذين تقدّموا النّاس في الثورة علي عثمان؟!. لکن عليّ عليه السلام ثبت علي موقفه و لم يغيّر ما عزم عليه، و لذا لمّا عاتبه بعض أصحابه علي التسوية في العطاء و طلبوا تمييزاً للبعض ارضاءً للخصوم، قال عليه السلام: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليّتُ عليه؟! و اللَّه لا أطورُ به[8] ما سمر سميرٌ و ما أمّ نجمٌ في السماء نجماً، و لو کان المال لي لسوّيتُ بينهم، فکيف و إنّما المالُ مالُ اللَّه؟!». ثمّ قال عليه السلام: «ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌو إسرافُ، و هو يَرفع صاحبَهُ في الدّنيا، و يَضَعُهُ في الآخرة، و يُکرِمُه في النّاس، و يُهينُهُ عندَ اللَّه، و لم يَضَع امرؤٌ مالَهُ في غير حَقِّه، و عند غيرِ أهلهِ، إلّا حَرَمَهُ اللَّه شُکْرَهُمْ، و کان لِغَيرهِ وُدُّهم، فإن زَلَّتْ بِه النَّعلُ يوماً فاحتاجَ إلي مَعُونَتِهم فشرُّ خَدينٍ و ألأم خليلٍ».[9] .
لمّا بايع الناس علياً بالخلافة، أعلن شرح ابن أبي الحديد، ج 17، ص 65. ما يمکن أن نُسمّيه في عصرنا الحاضر بالثورة الشاملة ضِد الأوضاع الاجتماعية التي کانت علي عهد عثمان، و عزمه الأکيد علي تغيير الأوضاع الجديدة التي حيزت فيها الأموال بغير حق، و العودة إلي نظام المساواة الذي قرّره الإسلام، و طبّقه رسول الإسلام صلي الله عليه و آله، و من کلماته الشهيرة التي تُعبّر عن عزمه علي ذلک قبل قوله:
صفحه 374، 375.