قول أبي عثمان الجاحظ في ذلك











قول أبي عثمان الجاحظ في ذلک



قال أبوعثمان ما ملخّصه: وربما رأيت بعض من يظنّ بنفسه العقل و العلم و يظنّ أنّه من الخواص- و هو من العوام- يزعم أنّ معاوية کان أبعد غوراً و أصحّ فکراً و أجود مسلکاً من عليّ عليه السلام! و ليس الأمر کذلک، و سأرمي إليک بجملة تعرف بها موضع غلطه، و ذلک أنّ عليّاً عليه السلام کان لا يستعمل في حروبه إلّا ما يوافق الکتاب و السنة، و کان معاوية يستعمل ما يخالفهما کاستعماله ما يوافقهما، و يسير في الحرب بسيرة ملک الهند إذا لاقي کسري، و خاقان إذا لاقي رُتبيل.

و کان عليّ عليه السلام يقول لأصحابه: «لا تبدأوهم بالقتال حتّي يبدأوکم، و لا تتبعوا مدبراً، و لا تُجهزوا علي جريح، و لا تفتحوا باباً مغلقاً» هذه سيرته في ذي الکلاع، و في أبي الأعور السُلمي، و في عمرو بن العاص، و في حبيب بن مَسلمة، و في جميع الرؤساء کسيرته في الحاشية و الأتباع، و لکن أصحاب الحروب إنّما يقصدون الوجه الّذي به هلاک الخصم، و ينتظرون وجه الفرصة،سواء کان

[صفحه 351]

مخالفاً للشريعة کالحريق و الغريق و دسّ السموم و التضريب بين النّاس بالکذب و إلقاء الکتب في العسکر بالسعاية أو موافقاً للشريعة، فعليّ عليه السلام کان ملجماً بالورع عن جميع القول إلّا ما هو للَّه رضا، و ممنوع اليدين من کل بطش إلّا ما هو للَّه رضي، و لا يري الرضا الا فيما يرضاه اللَّه و يحبّه، و لا يري الرضا إلّا فيما دل عليه الکتاب و السنة دون أصحاب الدهاء و النکراء و المکائد، فلمّا رأت العوام نوادر معاوية في المکائد و کثرة غرائبه في الخداع و ما اتفق له و تهيّأ علي يده، و لم يروا ذلک من عليّ عليه السلام ظنّوا بِقِصَرِ عقولهم وقلّة علومهم أنّ ذلک من رجحانٍ عند معاوية و نقصان عند عليّ عليه السلام.

ثمّ انظر بعد ذلک کلّه، هل يعدّ لمعاوية من الخُدع إلّا رفع المصاحف- في صفّين- ثمَّ انظر هل خدع بها إلّا من عصي رأي عليّ عليه السلام و خالف أمره من أصحابه!؟.

فإن زعمت أنّه نال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت، و ليس في هذا اختلفنا، و لا عن غَرارة أصحاب عليّ عليه السلام و عجلتهم و تسرّعهم و تنازعهم دفعنا، و إنّما کان البحث في التمييز بينه و بين معاوية في الدهاء و المکر و صحّة العقل و الرأي، إلي آخره.[1] .

قال الشارح المعتزلي: و من تأمّل هذا الکلام بعين الإنصاف و لم يتّبع الهوي علم صحّة جميع ما ذکره، و أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام دفع- من اختلاف أصحابه و سوء طاعتهم له، و لزومه سنن الشريعة و منهج العدل، و خروج معاوية و عمرو بن العاص عن قاعدة الشرع في استمالة النّاس إليهم بالرّغبة و الرهبة- إلي ما يُدفع إليه غيره، فلولا أنّه عليه السلام کان عارفاً بوجوه السّياسة و تدبير أمر السّلطان و الخلافة

[صفحه 352]

و حاذقاً في ذلک، لم يجتمع عليه إلّا القليل من الناس، و هم أهل الآخرة خاصّة، الّذين لا ميل لهم إلي الدنيا، فلمّا وجدناه دَبّر الأمر حين وليه، و اجتمع عليه من العساکر و الأتباع ما يتجاوز العدّ و الحصر، و قاتل بهم أعداءه الّذين حالُهم حالهم، فظفر في أکثر حروبه، و وقف الأمر بينه و بين معاوية علي سواء، و کان هو الأظهر و الأقرب إلي الانتصار، علمنا أنّه من معرفة تدبير الدّول و السّلطان بمکان مکين.[2] .

[صفحه 353]



صفحه 351، 352، 353.





  1. شرح ابن أبي الحديد، ج 10، ص 228.
  2. المصدر السابق، ج 10، ص 231؛ و من أراد الاطلاع علي حيل معاوية و مکره و بعض حالاته فليراجع المصدر السابق، ج 1، ص 334.