سياسته و تدبيره علي وفق الكتاب و السُنة











سياسته و تدبيره علي وفق الکتاب و السُنة



قال عليّ عليه السلام في خطبة له: «و اللَّه ما معاويُة بأدهي[1] منّي، و لکنّه يَغدِر و يَفجُر، و لولا کراهيّةُ[2] الغَدر[3] لَکنُتُ مِن أدهَي النّاس، و لکِن کُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ[4] ،

[صفحه 346]

و کلُّ فَجْرَةٍ کَفْرَةٌ، وَ لِکُلّ غادِرٍ لِواءٌ يُعْرَفُ به يوم القيامِة، و اللَّه ما أُستَغْفَلُ بالمَکِيْدَةِ وَ لاَ أُستَغْمَزُ[5] بالشَّدِيدَةِ[6] «.

و هو عليه السلام في هذه الخطبة دفع توهّم من کان يعتقد أنّ معاوية و أمثاله أجود رأياً و أکثر تدبيراً منه، و تعرّض بها لمعاوية من أجل عدم تحرّزه في تدبيره الأمور عن الغدر و الفجور، و صدّر الکلام بالقَسَم البارّ، تأکيداً للمقصود بقوله «و اللَّه ما معاوية بأدهي منّي» ثمّ قال: «و لکنّه يغْدِر و يَفْجُر» أي: يستعمل الغدر في أُموره السياسيّة، فيزعم أهل الجهل أنّه أدهي، في حين أنّ عليّاً عليه السلام کان ملازماً في جميع حرکاته قوانين الشريعة، و رفض ما هو المعتاد في ذاک العصر في الحروب و إدارة الشؤون، کتدابير الدهاء و الخبث و المکر و الحيلة و الإجتهادات في النصوص، ممّا لم ترخّص فيه الشريعة، أمّا غيره مثل معاوية فيلجأ إلي جميع تلک الوسائل، سواء کان وافق شريعة الإسلام أم لا، فکانت وجوه الحيل و التدبير عليهم أوسع، و کان مجالها عليه أضيق.

ثمّ نبّه عليّ عليه السلام في الخطبة في وجهٍ علي ما منع النّاس من أن يصفوه بالدهاء، مع کونه أعرف به من معاوية، فقال: «لَولا کَراهِيَّةُ الغَدْر» أي المکر و استلزامه الکذب و الغش و الخيانة و الفجور المنافي لمرتبة العصمة «لَکنتُ مِن أدهَي النّاسِ».

و أصرح منه قوله هنا في الخطبة: «وَلکِن کلُّ غَدْرَةٍ فَجْرَةٌ، وَکلُّ فَجْرَةٍ کَفْرَةٌ». و وجه لزوم الکفر هنا: أنّ استباحة ما علم تحريمه من الشرع و جحده هو الکفر، کما استباح معاوية و أتباعه محرّمات الإسلام.

[صفحه 347]

أمّا عليّ عليه السلام فإنّه لم يکن طالب دنيا و لا إمرة و لا سلطنة، بل طالب آخرة، و هدفه إقامة الحقّ و خذلان الباطل، فکيف يتوسّل بالباطل إلي نيل الملک، و هو الّذي کان يقول: «و اللَّه لَو أُعْطِيتُ الأقالِيمَ السَبْعَة بِما تَحتَ أفلاکِها علي أن أعْصِيَ اللَّه في نَمْلةٍ أسبلُهُا جلبَ شعيرةٍ ما فَعَلْتُهُ».[7] .

و هو الّذي يقول في نعله الّتي لا تساوي درهماً: «و اللَّه لَهِيَ أحبُّ إليَّ مِن إمْرَتِکُمْ إلّا أنْ أُقيمَ حَقّاً أو أدفَعَ باطلاً».[8] .

و هو الّذي لم يقبل يوم الشوري أن يبايعه عبدالرّحمن بن عوف إلّا علي کتاب اللَّه و سنّة رسوله و رأيه، و لم يرض أن يدخل سيرة الشيخين حتّي عدل عنه إلي من قبل ذلک.[9] .

و هو الذي جاءه المغيرة بن شعبة بعد مبايعته، فقال له: إنّ لک حقّ الطاعة و النصحية، و إنّ الرأي اليوم تحرز به ما في غد، و إنّ الضياع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية علي عمله، و أقرر العمّال علي أعمالهم حتي إذا أتتک طاعتهم و بيعة الجنود استبدلت أو ترکت؟ فأبي، و قال: «لا أُداهن في ديني، و لا أُعطي الدّنية في أمري».

قال المغيرة: فإن کنت أبيتَ عليّ فانزع من شئت و اترک معاوية، فإنّ في معاوية و هو في الشام يُستمع له، و لک حجّة في إثباته... إذ کان عمر قد ولّاه الشام؟ فقال عليّ عليه السلام: «لا و اللَّه... لا أستعمل معاوية يومين...».[10] .

هذا عليّ عليه السلام لم يترک الدّين و الإسلام علي مدي حکومته لحظة و لم يغفل

[صفحه 348]

عنه طرفة عين رغم جميع المواقف الصعبة و الظروف القاهرة التي مرّت بها حکومته عليه السلام.



صفحه 346، 347، 348.





  1. الدهي و الدهاء: الفکر وجودة الرأي.
  2. الکراهية هنا بمعني الحرمة لا معناها المعروف في مصطلح المتشرّعة.
  3. الغدر هو الرذيلة المقابلة لفضيلة الوفاء بالعهود الّتي هي ملکة تحت العفّة.
  4. الفجور: مقابل لفضيلة العفّة.
  5. و لا استغمز بالزاي المعجمة: أي لا يطلب غمزي و إضعافي، فإنّي لا أضعف عمّا أُرمي به من الشدائد، و لا أستجهل بشدائد المکائد.
  6. نهج البلاغة، الخطبة 200.
  7. نهج البلاغة، الخطبة 215.
  8. نفس المصدر، الخطبة 33.
  9. راجع في هذا المجال شرح ابن أبي الحديد، ج 10، ص 245.
  10. عبقرية الإمام عليّ، ص 122؛ و راجع نحوه في مروج الذهب، ج 2، ص 363.