كلام في بدء إسلام الإمام











کلام في بدء إسلام الإمام



کان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أفضل وأکرم مؤمن عرفه التاريخ الإسلاميّ بل کان في ذروة الإيمان، وإيمانه ذو مواصفات لا مثيل لها عند غيره من اُولي الإيمان، فهو أوّل من صدّق برسول اللَّه صلي الله عليه و آله، وإيمانه نقيّ خالص لم تَشُبه شائبة الشرک قطّ، ولم يشاکله أحد في ثبات خطاه علي الإيمان وقوّة العقيدة.

کان عليه السلام- کما أشرنا سابقاً- ينام في فراش النبيّ صلي الله عليه و آله منذ الأيّام الاُولي لحياته. وقد نشأ برعاية النبيّ إيّاه.

وتربّي علي الخلق النبوي العظيم والسيرة المبارکة. وکان يشهد مراحل النبوّة مع النبيّ صلي الله عليه و آله جنباً إلي جنب، وکان النبيّ يأخذه معه إلي غار حراء، فتعرّف علي أسرار الملکوت. وصرّح في خطبته العظيمة «القاصعة» أنّه کان يري نور الوحي، ويسمع رنّة الشيطان اليائسة. وعلي مشارف إبلاغ الرسالة نال لقب «الوصي»، و«الوزير»، و «الأخ»، من خلال مرافقته لرسول اللَّه صلي الله عليه و آله.

ولنلحظ تصويره الجميل للرعاية النبويّة. قال:

«وقد علمتم مَوضعي من رسول اللَّه صلي الله عليه و آله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة.

[صفحه 132]

وضَعَني في حِجره وأنا ولد يَضمُّني إلي صدره، ويَکنفني في فراشه، ويُمسّني جسده، ويُشمّني عَرْفَه[1] وکان يمضغ الشي ء ثمّ يُلقمنيه. وما وجد لي کذبةً في قول، ولا خَطلةً في فعل. ولقد قَرنَ اللَّهُ به صلي الله عليه و آله مِن لَدُن أنْ کان فطيماً أعظم مَلَک من ملائکته يسلک به طريق المکارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليلَه ونهارَه. ولقد کنتُ أتّبعه اتّباعَ الفصيل أثرَ اُمِّه، يَرفع لي في کلّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد کان يجاور في کلِّ سنة بحِراء فأراه، ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول اللَّه صلي الله عليه و آله وخديجة وأنا ثالثهما. أري نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة.

ولقد سمعتُ رَنّةَ الشيطان حين نزل الوحي عليه صلي الله عليه و آله فقلتُ: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته. إنّک تسمع ما أسمع، وتري ما أري، إلّا أنّک لست بنبيّ، ولکنّک لَوزيرٌ وإنّک لَعلي خير»[2] .

وقال ابن أبي الحديد- في بيان قوله عليه السلام: «إنّي وُلدتُ علي الفطرة»-: «ومراده هاهنا بالولادة علي الفطرة أنّه لم يولد في الجاهليّة؛ لأ نّه ولد عليه السلام لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل، والنبيّ صلي الله عليه و آله اُرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل.

وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنّه صلي الله عليه و آله مکث قبل الرسالة سنين عشراً يسمع الصوت ويري الضوء، ولا يخاطبه أحد، وکان ذلک إرهاصاً لرسالته عليه السلام، فحُکم تلک السنين العشر حکم أيّام رسالته صلي الله عليه و آله، فالمولود فيها إذا کان في حجره وهو المتولّي لتربيته مولود في أيّام کأيّام النبوّة، وليس بمولود في جاهليّة محضة، ففارقت حاله حال من يُدّعي له من الصحابة مماثلته في الفضل.

[صفحه 133]

وقد روي أنّ السنة التي ولد فيها عليّ عليه السلام هي السنة التي بُدئ فيها برسالة رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فاُسمِع الهتاف من الأحجار والأشجار، وکشف عن بصره، فشاهد أنواراً وأشخاصاً، ولم يخاطَب فيها بشي ء.

وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حِراء، فلم يَزَل به حتي کوشف بالرسالة، واُنزل عليه الوحي. وکان رسول اللَّه صلي الله عليه و آله يتيمّن بتلک السنة وبولادة عليّ عليه السلام فيها، ويسمّيها سنة الخير وسنة البرکة، وقال لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الکرامات والقدرة الإلهيّة، ولم يکن من قبلها شاهد من ذلک شيئاً: «لقد وُلد لنا الليلة مولود يفتح اللَّه علينا به أبواباً کثيرة من النعمة والرحمة». وکان کما قال صلوات اللَّه عليه؛ فإنّه عليه السلام کان ناصره والمحامي عنه وکاشف الغمّاء عن وجهه، وبسيفه ثَبت دين الإسلام، ورست دعائمه، وتمهّدت قواعده»[3] .

ويقول الکاتب المسيحي الشهير جورج جرداق: «وإذا أسلم بعض الوجوه من قريش منذ أوّل الدعوة احتکاماً للعقل وتخلّصاً من الوثنيّة؛ وإذا أسلم کثير من العبيد والأرقاء والمضطهدين طلباً للعدالة التي تتدفّق بها رسالة محمّد، واستنکاراً للجور الذي يلهب ظهورهم بسياطه؛ وإذا أسلم قوم بعد انتصار النبيّ امتثالاً للواقع وتزلّفاً للمنتصر کما هي الحال بالنسبة لأکثر الأمويّين؛ إذا أسلم هؤلاء جميعاً في ظروف تتفاوت من حيث قيمتها ومعانيها الإنسانيّة، وتتّحد في خضوعها للمنطق أو للواقع الراهن، فإنّ عليّ بن أبي طالب قد ولد مسلماً؛ لأ نّه

[صفحه 134]

من معدن الرسالة مولداً ونشأةً، ومن ذاته خلقاً وفطرةً. ثمّ إنّ الظرف الذي أعلن فيه عمّا يکمن في کيانه من روح الإسلام ومن حقيقته، لم يکن شيئاً من ظروف الآخرين ولم يرتبط بموجبات العمر؛ لأنّ إسلام عليٍّ کان أعمق من ضرورة الارتباط بالظروف إذ کان جارياً من روحه کما تجري الأشياء من معادنها والمياه من ينابيعها. فإنّ الصبيّ ما کاد يستطيع التعبير عن خلجات نفسه، حتي أدّي فرض الصلاة وشهد باللَّه ورسوله دون أن يستأذن أو يستشير.

لقد کان أوّل سجود المسلمين الاُوَل لآلهة قريش!

وکان أوّل سجود عليّ لإله محمّد!

إلّا أنّه إسلام الرجل الذي اُتيح له أن ينشأ علي حبّ الخير وينمو في رعاية النبيّ ويصبح إمامَ العادلين من بعده، وربّان السفينة في غمرة العواصف والأمواج»[4] .

يتبيّن ممّا ذکرناه- وهو غيض من فيض، ويمکن ملاحظة حقائق کثيرة تدعم ما أوردناه- ما يأتي:

1- يعود إيمان عليّ عليه السلام إلي السنين التي سبقت الجهر بالرسالة الإسلاميّة.

2- تباينت أقوال المؤرّخين في عمره عليه السلام حين تصديقه النبيّ صلي الله عليه و آله بين الثمان[5]

[صفحه 135]

والتسع،[6] والعشر،[7] والإحدي عشرة،[8] والاثنتي عشرة،[9] والثلاث عشرة،[10] والأربع عشرة،[11] والخمس عشرة،[12] والستّ عشرة[13] .

[صفحه 136]

وإن دلّ هذا علي شي ء فإنّما يدلّ علي تحديد عمره في موقفه من الرسالة فحسب، وإلّا فإنّ روحه الطاهرة لم تتلوّث بالشرک قطّ[14] وهکذا قال زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام في جواب من سأله عن عمر الإمام عليه السلام عند إيمانه: أوَکان کافراً؟ إنّما کان لعليّ حيث بعث اللَّه عزّ وجلّ رسوله صلي الله عليه و آله عشر سنين، ولم يکن يومئذٍ کافراً[15] .

ونضيف إلي أنّ ما نُقل عن أنّه عليه السلام کان ابن عشر سنين حين تصديقه بالرسالة يعدّ من أصحّ الأخبار وأشهرها[16] .

3- من هنا لا مراء فيمن کان أوّل المؤمنين! فبعض الصحابة أسلم بعد فترة قصيرة مضت علي الرسالة، وبعضهم أسلم بعد برهة من الزمن. أمّا عليّ عليه السلام فقد کانت روحه معطّرة بعبير الوحي منذ أيّامه الاُولي، کما کان يعرف معالمه قبل البعثة وقد ألفه وتمرّس عليه، ومن الطبيعيّ أنّه رافق أوّل قبس تألّق منه بلا تأخير.

والآن أيّ شأن لأقوال الذين يحاولون أن يستهينوا بإيمان عليٍّ عليه السلام لصغر سنّه؟! ليت لعِلية القوم المسنّين قليلاً من تلک الفطنة، وسلامة الفطرة وخلوص القلب، وليتهم ألِفوا نور الوحي!

4- نُقلت روايات متنوّعة کثيرة في عبادة الإمام عليه السلام وصلاته. ولا تدلّ هذه

[صفحه 137]

الروايات علي أنّه أوّل من صلّي بعد النبيّ فحسب، بل تدلّ علي أنّه سبق الآخرين إلي العبادة بثلاث أو خمس أو سبع سنين أيضاً. ويمکن أن تشير هذه الروايات إلي عبادته عليه السلام قبل البعثة أيضاً[17] [18] .

[صفحه 139]



صفحه 132، 133، 134، 135، 136، 137، 139.





  1. العَرْف: الريح الطيّبة (النهاية: 217:3).
  2. راجع: عليّ عن لسان عليّ/المکانة عند رسول اللَّه/القرابة القريبة.
  3. شرح نهج البلاغة: 114:4.
  4. الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانيّة: 38.
  5. التاريخ الکبير: 2343:259:6، السنن الکبري: 12160:339:6، تاريخ دمشق: 25:42، المعجم الکبير: 162:95:1 کلّها عن عروة، تاريخ بغداد: 1:134:1 عن أبي الأسود عمّن حدّثه، الاستيعاب: 1875: 199:3 عن أبي الأسود.
  6. الطبقات الکبري: 21:3 عن محمّد بن عبدالرحمن بن زرارة، تاريخ دمشق: 26:42 عن محمّد بن عبدالرحمن بن زرارة وحسن بن زيد وأبي نعيم، المعارف لابن قتيبة: 168 عن ابن إسحاق، تاريخ الطبري: 312:2، الکامل في التاريخ: 484:1، البداية والنهاية: 25:3 والثلاثة الأخيرة عن الکلبي، شرح نهج البلاغة: 235:13 عن الشعبي.
  7. الکافي: 536:339:8 عن سعيد بن المسيّب عن الإمام زين العابدين عليه السلام؛ المستدرک علي الصحيحين: 4580:120:3، الاستيعاب: 1875:199:3، دلائل النبوّة للبيهقي: 165:2، شرح نهج البلاغة: 235:13، تاريخ الطبري: 312:2 والخمسة الأخيرة عن ابن إسحاق و ص 314، اُسد الغابة: 3789:89:4، السنن الکبري: 12162:339:6 والثلاثة الأخيرة عن مجاهد و ح 12161 عن ابن إسحاق، البداية والنهاية: 26:3 عن ابن إسحاق ومجاهد.
  8. الکامل في التاريخ: 484:1 عن ابن إسحاق، السنن الکبري: 12163:340:6، تاريخ دمشق: 26:42 کلاهما عن شريک، شرح نهج البلاغة: 235:14 عن عبداللَّه بن سمعان عن الإمام الصادق عليه السلام وعن عبداللَّه بن زياد وکلاهما عن الإمام الباقر عليه السلام.
  9. الاستيعاب: 1875:199:3 عن أبي عمر.
  10. الاستيعاب: 1875:199:3 عن أبي عمر و ص 1875:200 عن ابن عمر.
  11. تاريخ دمشق: 26:42 عن المغيرة، شرح نهج البلاغة: 234:13 عن جرير وحذيفة.
  12. تاريخ خليفة بن خيّاط: 150، الاستيعاب: 1875:199:3، تاريخ دمشق: 27:42 کلّها عن الحسن، العقد الفريد: 312:3 عن أبي الحسن، شرح نهج البلاغة: 234:13 عن خبّاب بن الأرت والحسن وعبدالرزاق ومعمر وقتادة.
  13. فضائل الصحابة لابن حنبل: 998:589:2، السنن الکبري: 12164:340:6، المصنّف لعبد الرزّاق: 325:5، المعجم الکبير: 163:95:1، تاريخ دمشق: 27:42 کلّها عن الحسن وغيره وفيها «هو ابن خمس عشرة سنة أو ستّ عشرة سنة»، المستدرک علي الصحيحين: 4581:120:3 عن الحسن وفيه «أسلم عليّ وهو ابن عشر أو ابن ستّ عشرة سنة»، الاستيعاب: 1875:199:3 عن أبي عمر.
  14. راجع: لم يکفر باللَّه طرفة عين.
  15. راجع: عمره يوم أسلم.
  16. لأنّه عليه السلام- علي المشهور- ولد بعد عام الفيل بثلاثين سنة (راجع: القسم الأول:الولادة:المولد) وأيضاً- علي المشهور- کان عمره عليه السلام يوم استشهد في سنة (63 (40 سنة (راجع: القسم الثامن:من الاغتيال إلي الاستشهاد:تاريخ شهادته) ومجموعهما يدلّ علي أنّه عليه السلام کان ابن عشر سنين عند البعثة.
  17. راجع: الخصائص العمليّة/إمام المصلّين/أوّل من صلّي مع النبيّ. الخصائص العمليّة/إمام العابدين/أوّل من عبداللَّه من الاُمّة.
  18. نستثني من الذين سبقهم الإمام عليه السلام إلي الإيمان والعبادة خديجة عليهاالسلام، إذ يحتاج هذا الموضوع إلي دراسة مستقلّة.