قصص من عبادته











قصص من عبادته



4303- حلية الأولياء عن أبي صالح: دخل ضرار بن ضمرة الکناني علي معاوية، فقال له: صِف لي عليّاً. فقال: أ وَتعفيني يا أميرالمؤمنين؟ قال: لا أعفيک، قال:أمّا إذ لابدّ؛ فإنّه کان واللَّه بعيد المدي، شديد القوي، يقول فصلاً، ويحکم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحکمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا

[صفحه 205]

وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.

کان واللَّه غزير العبرة، طويل الفکرة، يقلّب کفّه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب، کان واللَّه کأحدنا؛ يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، وکان مع تقرّبه إلينا وقربه منّا لا نکلّمه هيبةً له؛ فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظِّم أهل الدِّين، ويحبّ المساکين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.

فأشهد باللَّه لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخي الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابة، قابضاً علي لحيته، يتململ تململ السَّليم،[1] ويبکي بکاء الحزين، فکأنّي أسمعه الآن وهو يقول: يا ربّنا يا ربّنا- يتضرّع إليه- ثمّ يقول للدنيا: إليَّ تغرّرتِ! إليَّ تشوّفتِ! هيهات هيهات، غُرّي غيري، قد بتتّک ثلاثاً، فعمرک قصير، ومجلسک حقير، وخطرک يسير، آهٍ آهٍ من قلّة الزاد، وبُعْد السفر، ووحشة الطريق.

فوَکَفَتْ[2] دموع معاوية علي لحيته ما يملکها، وجعل ينشفها بکُمّه وقد اختنق القوم بالبکاء، فقال: کذا کان أبوالحسن رحمه الله! کيف وَجْدک عليه يا ضرار؟ قال: وَجْدُ من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ[3] دمعتها،ولا يسکن حزنها. ثمّ قام فخرج[4] .

[صفحه 206]

4304- الأمالي للصدوق عن الأصبغ بن نباتة: دخل ضرار بن ضمرة النهشلي علي معاوية بن أبي سفيان فقال له: صف لي عليّاً. قال: أوَتعفيني، فقال: لا، بل صِفْه لي، فقال له ضرار: رحم اللَّه عليّاً! کان واللَّه فينا کأحدنا؛ يدنينا إذا أتيناه، ويُجيبنا إذا سألناه، ويقرّبنا إذا زرناه، لا يُغلق له دوننا باب، ولا يحجبنا عنه حاجب، ونحن واللَّه مع تقريبه لنا وقربه منّا، لا نکلّمه لهيبته، ولا نبتديه لعظمته، فإذا تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم.

فقال معاوية: زدني من صفته، فقال ضرار: رحم اللَّه عليّاً! کان واللَّه طويل السهاد، قليل الرُّقاد، يتلو کتاب اللَّه آناء الليل وأطراف النهار، ويجود للَّه بمهجته، ويبوء إليه بعبرته، لا تغلق له الستور، ولا يدّخر عنّا البدور، ولا يستلين الاتّکاء، ولا يستخشن الجفاء، ولو رأيته إذ مثل في محرابه، وقد أرخي الليل سدوله، وغارت نجومه، وهو قابض علي لحيته، يتململ تململ السليم، ويبکي بکاء الحزين، وهو يقول: يا دنيا! إليَّ تعرّضتِ أم إليَّ تشوّقتِ؟ هيهات هيهات، لا حاجة لي فيک، أبَنْتُکِ ثلاثاً لا رجعة لي عليک، ثمّ يقول: واهٍ واهٍ لبُعد السفر، وقلّة الزاد، وخشونة الطريق.

قال: فبکي معاوية وقال: حسبک يا ضرار، کذلک کان واللَّه عليّ! رحم اللَّه أباالحسن![5] .

[صفحه 207]

4305- الأمالي للصدوق عن عروة بن الزبير: کنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول اللَّه صلي الله عليه و آله، فتذاکرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبوالدرداء: يا قوم! ألا اُخبرکم بأقلّ القوم مالاً، وأکثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة، قالوا: من؟ قال: عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

قال: فواللَّه إن کان في جماعة أهل المجلس إلّا معرض عنه بوجهه، ثمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر! لقد تکلّمت بکلمة ما وافقک عليها أحد منذ أتيت بها.

فقال أبوالدرداء: يا قوم، إنّي قائل ما رأيت، وليقل کلّ قوم منکم ما رأوا، شهدت عليّ بن أبي طالب عليه السلام بشويحطات النجّار وقد اعتزل عن مواليه واختفي ممّن يليه، واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبَعُدَ عليَّ مکانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّ، وهو يقول: إلهي کم من موبقةٍ حَمَلْتَ عنّي فقابلتها بنعمتک، وکم من جريرةٍ تکرّمت عن کشفها بکرمک، إلهي إن طال في عصيانک عمري، وعظم في الصحف ذنبي؛ فما أنا مؤمّل غير غفرانک، ولا أنا براجٍ غير رضوانک. فشغلني الصوت، واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعينه، فاستترت له وأخملتُ الحرکة، فرکع رکعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فزع إلي الدعاء والبکاء والبثّ والشکوي. فکان ممّا ناجي به اللَّه أن قال:

إلهي اُفکّر في عفوک؛ فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذکر العظيم من أخذک؛ فتعظم عليَّ بليّتي، ثمّ قال: آهٍ إن أنا قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول: خذوه!! فياله من مأخوذ، لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا اُذن فيه بالنداء، ثمّ قال: آهٍ من نارٍ تنضج الأکباد والکلي، آهٍ من نارٍ نزّاعة

[صفحه 208]

للشوي، آهٍ من غمرةٍ من ملهبات لظي.

قال: ثمّ أنعم في البکاء؛ فلم أسمع له حسّاً ولا حرکة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر، اُوقظه لصلاة الفجر.

قال أبوالدرداء: فأتيته فإذا هو کالخشبة الملقاة، فحرّکته فلم يتحرّک، وزويته فلم ينزوِ، فقلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، مات واللَّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام! قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم، فقالت فاطمة عليهاالسلام: يا أباالدرداء، ما کان من شأنه ومِن قصّته؟ فأخبرتها الخبر، فقالت: هي واللَّه يا أباالدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللَّه، ثمّ أتوه بماء فنضحوه علي وجهه، فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبکي، فقال: ممّ بکاؤک يا أباالدرداء؟

فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسک، فقال: يا أباالدرداء، فکيف لو رأيتَني ودُعي بي إلي الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائکة غلاظ، وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملک الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لکنتَ أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفي عليه خافية. فقال أبوالدرداء: فواللَّه مارأيت ذلک لأحد من أصحاب رسول اللَّه صلي الله عليه و آله[6] .

4306- فلاح السائل عن حبّة العرني: بينا أنا ونَوْف نائمين في رحبة القصر؛ إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقيّة من الليل واضعاً يده علي الحائط شبه الوالِه[7] وهو يقول: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَ تِ وَ الْأَرْضِ» إلي آخر الآية[8] قال: ثمّ جعل يقرأ

[صفحه 209]

هذه الآيات، ويمرّ شبه الطائرِ عقلُه، فقال: أ راقد يا حبّة أم رامق؟ قلت: رامق،هذا أنت تعمل هذا العمل فکيف نحن؟! قال: فأرخي عينيه فبکي، ثمّ قال لي: يا حبّة، إنّ للَّه موقفاً، ولنا بين يديه موقف، لا يخفي عليه شي ء من أعمالنا. يا حبّة، إنّ اللَّه أقرب إليک وإليَّ من حبل الوريد. يا حبّة، إنّه لن يحجبني ولا إيّاک عن اللَّه شي ء.

قال ثمّ قال: أراقد أنت يا نَوْف؟ قال: لا يا أميرالمؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بکائي هذه الليلة. فقال: يا نوف، إن طال بکاؤک في هذا الليل مخافةً من اللَّه عزّ وجلّ، قرّت عيناک غداً بين يدي اللَّه عزّ وجلّ. يا نوف، إنّه ليس من قطرةٍ قطرت من عين رجل من خشية اللَّه إلّا أطفأت بحاراً من النيران.

يا نوف، إنّه ليس من رجلٍ أعظم منزلةً عند اللَّه من رجلٍ بکي من خشية اللَّه، وأحبّ في اللَّه وأبغض في اللَّه. يا نَوْف، إنّه من أحبّ في اللَّه لم يستأثر علي محبّيه، ومن أبغض في اللَّه لم يُنِل مبغضيه خيراً، عند ذلک استکملتم حقائق الإيمان.

ثمّ وعظهما وذکّرهما. وقال في أواخره: فکونوا من اللَّه علي حذر فقد أنذرتکما. ثمّ جعل يمرّ وهو يقول: ليت شِعري في غفلاتي، أمعرض أنت عنّي أم ناظر إليَّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شکري في نعمک عليَّ، ما حالي؟ قال: فواللَّه ما زال في هذا الحال حتي طلع الفجر[9] .

4307- الخصال عن نوف البکالي: بتّ ليلة عند أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، فکان

[صفحه 210]

يصلّي الليل کلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة؛ فينظر إلي السماء ويتلو القرآن قال: فمرّ بي بعد هدوء من الليل، فقال: يا نَوْف، أراقد أنت أم رامق؟ قلت: بل رامق، أرمقک ببصري يا أميرالمؤمنين. قال:

طوبي للزاهدين في الدنيا، والراغبين في الآخرة، اُولئک الذين اتّخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقَرَّضوا من الدنيا تقريضاً علي منهاج عيسي بن مريم عليه السلام[10] .



صفحه 205، 206، 207، 208، 209، 210.





  1. السَّليم: اللديغ. يقال: سَلَمَتْهُ الحيّةُ؛ أي لَدَغَتْهُ (لسان العرب: 292:12).
  2. وَکَفَ الدمع: إذا تقاطر (النهاية: 220:5).
  3. رقَأ الدمع: سکن وانقطع (النهاية: 248:2).
  4. حلية الأولياء: 84:1، تاريخ دمشق: 401:24 و402، الاستيعاب: 1875:209:3، المحاسن والمساوئ: 46 وفيه «عدي بن حاتم» بدل «ضرار»، صفة الصفوة: 133:1، الصواعق المحرقة: 131، تذکرة الخواصّ: 118، ذخائر العقبي: 178، الفصول المهمّة: 127، مروج الذهب: 433:2؛ نهج البلاغة: الحکمة 77، خصائص الأئمّة عليهم السلام: 70، کنز الفوائد: 160:2، عدّة الداعي: 194، إرشاد القلوب: 218، الفضائل لابن شاذان: 83، المناقب لابن شهر آشوب: 103:2، تنبيه الخواطر: 79:1 کلّها نحوه.
  5. الأمالي للصدوق: 990:724، بحارالأنوار: 6:14:41.
  6. الأمالي للصدوق: 136:137، تنبيه الخواطر: 156:2، روضة الواعظين: 125، المناقب لابن شهر آشوب: 124:2 وفيه من «أنا بصوت حزين...».
  7. الوَلَه: ذهاب العقل، والتحيّر من شدّة الوجد (النهاية: 227:5).
  8. البقرة: 164 وآل عمران: 190.
  9. فلاح السائل: 315:466، بحارالأنوار: 13:22:41 و ج 9:201:87.
  10. الخصال: 40:337، الأمالي للمفيد: 1:132، نهج البلاغة: الحکمة 104، خصائص الأئمّة عليهم السلام: 97،فلاح السائل: 314:465 وفيه «الدين» بدل «الدعاء»، المناقب للکوفي: 1087:578:2؛ تاريخ بغداد: 3608:162:7، تاريخ دمشق: 304:62، دستور معالم الحکم: 76 کلّها نحوه.