الجمع بين الأضداد











الجمع بين الأضداد



4250- نهج البلاغة- في الإمام علي عليه السلام-: ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها وأمِنَ المشارکة فيها، أنّ کلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذکير والزواجر، إذا تأمّله المتأمّل، وفکّر فيه المتفکّر، وخلع من قلبه أنّه کلام مثله ممّن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملکه، لم يعترضه الشکّ في أنّه کلام من لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في کِسر بيت، أو انقطع إلي سفح جبل، ولا يُسمع إلّا حسّه، ولا يُري إلّا نفسه.

ولا يکاد يوقن بأنّه کلام من ينغمس في الحرب مُصْلتاً سيفه، فيقُطّ الرقاب، ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً، ويقطر مهجاً، وهو مع تلک الحال زاهد الزهّاد، وبدل الأبدال.

وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد، وألّف بين الأشتات[1] .

4251- شرح نهج البلاغة: کان أميرالمؤمنين عليه السلام ذا أخلاقٍ متضادّة: فمنها ما قد ذکره الرضي رحمه الله، وهو موضع التعجّب؛ لأنّ الغالب علي أهل الشجاعة والإقدام والمغامرة والجرأة أن يکونوا ذوي قلوب قاسية، وفتک وتمرّد وجَبَريّة[2]

[صفحه 186]

والغالب علي أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذّها والاشتغال بمواعظ الناس، وتخويفهم المعاد، وتذکيرهم الموت، أن يکونوا ذوي رقّة ولين، وضعف قلب، وخَوَر طبع، وهاتان حالتان متضادّتان، وقد اجتمعتا له عليه السلام.

ومنها: أنّ الغالب علي ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يکونوا ذوي أخلاق سبعيّة،وطباع حوشيّة، وغرائز وحشيّة، وکذلک الغالب علي أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذکير ورفض الدنيا أن يکونوا ذوي انقباض في الأخلاق، وعبوس في الوجوه، ونفار من الناس واستيحاش.

وأميرالمؤمنين عليه السلام کان أشجع الناس وأعظمهم إراقةً للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذّ الدنيا، وأکثرهم وعظاً وتذکيراً بأيّام اللَّه ومَثُلاته،[3] وأشدّهم اجتهاداً في العبادة وآداباً لنفسه في المعاملة.

وکان مع ذلک ألطف العالم أخلاقاً، وأسفرهم وجهاً، وأکثرهم بِشراً، وأوفاهم هشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خُلُق نافر، أو تجهّم مباعد، أو غلظة وفظاظة تنفر معهما نفس، أو يتکدّر معهما قلب. حتي عيب بالدعابة، ولمّا لم يجدوا فيه مغمزاً ولا مطعناً تعلّقوا بها، واعتمدوا في التنفير عنه عليها «وتلک شکاة ظاهر عنک عارها». وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة.

ومنها: أنّ الغالب علي شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة أن يکون ذا کبر وتيه وتعظّم وتغطرس، خصوصاً إذا اُضيف إلي شرفه من جهة النسب شرفه من جهات اُخري، وکان أميرالمؤمنين عليه السلام في مُصاص[4] الشرف

[صفحه 187]

ومعدنه ومعانيه، لا يشکّ عدوّ ولا صديق أنّه أشرف خلق اللَّه نسباً بعد ابن عمّه صلوات اللَّه عليه.

وقد حصل له من الشرف غيرَ شرف النسب جهاتٌ کثيرة متعدّدة، قد ذکرنا بعضها، ومع ذلک فکان أشدّ الناس تواضعاً لصغير وکبير، وأليَنهم عريکةً، وأسمحهم خُلقاً، وأبعدهم عن الکِبْر، وأعرفهم بحقّ، وکانت حاله هذه في کلا زمانيه: زمان خلافته،والزمان الذي قبله، لم تُغيّره الإمرة، ولا أحالت خُلُقه الرياسة، وکيف تُحيل الرياسة خُلقه وما زال رئيساً! وکيف تغيّر الإمرة سجيّته وما برح أميراً! لم يستفِد بالخلافة شرفاً، ولا اکتسب بها زينة!

بل هو کما قال أبوعبداللَّه أحمد بن حنبل، ذکر ذلک الشيخ أبوالفرج عبدالرحمن بن عليّ بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم: تذاکروا عند أحمد خلافة أبي بکر وعليّ وقالوا فأکثروا، فرفع رأسه إليهم، وقال: قد أکثرتم! إنّ عليّاً لم تزنه الخلافة، ولکنّه زانها.

وهذا الکلام دالّ بفحواه ومفهومه علي أنّ غيره ازدان بالخلافة وتمّمت نقصه، وأنّ عليّاً عليه السلام لم يکن فيه نقص يحتاج إلي أن يُتممّ بالخلافة، وکانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتمّ نقصها بولايته إيّاها.

ومنها: أنّ الغالب علي ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يکونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو؛ لأنّ أکبادهم واغرة،[5] وقلوبهم ملتهبة، والقوّة الغضبيّة عندهم شديدة، وقد علمت حال أميرالمؤمنين عليه السلام في کثرة إراقة الدم وما

[صفحه 188]

عنده من الحلم والصفح، ومغالبة هوي النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل، ولقد أحسن مهيار في قوله:


حتي إذا دارت رحي بغيهمْ
عليهمُ وسبق السيفُ العذَلْ


عاذوا بعفو ماجدٍ معوّدٍ
للعفو حمّالٍ لهم علي العللْ


فنجّت البُقيا عليهم من نجا
وأکَلَ الحديدُ منهم من أکلْ


أطّت بهم أرحامهم فلم يطعْ
ثائرة الغيظ ولم يُشفِ الغُلَلْ


ومنها: أنّا ما رأينا شجاعاً جواداً قطّ،کان عبداللَّه بن الزبير شجاعاً؛ وکان أبخل الناس، وکان الزبير أبوه شجاعاً؛ وکان شحيحاً، قال له عمر: لو ولّيتها لظلتَ تُلاطمُ الناس في البطحاء علي الصاع والمُدّ.

وأراد عليّ عليه السلام أن يحجر علي عبداللَّه بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارک الزبير في أمواله وتجاراته، فقال عليه السلام: أما إنّه قد لاذ بملاذ، ولم يحجر عليه.

وکان طلحة شجاعاً؛ وکان شحيحاً، أمسک عن الإنفاق حتي خلّف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر.

وکان عبدالملک شجاعاً؛ وکان شحيحاً، يُضرب به المثل في الشُّحّ، وسمي رَشْح الحجر لبخله.

وقد علمت حال أميرالمؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء کيف هي، وهذا من أعاجيبه أيضاً عليه السلام[6] .

[صفحه 189]

4252- المناقب لابن شهر آشوب عن أبي عليّ سينا: لم يکن شجاعاً فيلسوفاً قطّ إلّا عليّ عليه السلام[7] .

[صفحه 191]



صفحه 186، 187، 188، 189، 191.





  1. نهج البلاغة: المقدّمة ص 35.
  2. الجَبَريّة: الکِبْر (لسان العرب: 113:4).
  3. المَثُلات: الأشباه والأمثال ممّا يعتبر به (مجمع البحرين: 1671:3).
  4. المُصاص: خالص کلّ شي ء (لسان العرب: 91:7).
  5. الوَغَر: الغِلّ والحرارة (النهاية: 208:5).
  6. شرح نهج البلاغة: 50:1 تا 53.
  7. المناقب لابن شهر آشوب: 49:2.